من ثورة الأرز إلى ثورة الياسمين فثورة مصر

من ثورة الأرز إلى ثورة الياسمين فثورة مصر
شعوب كسرت القيود... وأخرى تتهيأ!


فادي شامية - الأربعاء,2 شباط 2011
هي سُنن الله في خلقه؛ لا تبديل لها. الظلم قد يغلب حيناً، لكنه في المآل لا يسود، ولا بد أن يحطّمه الحق. من فرعون الأول إلى "فراعين" هذا العصر؛ السُّنة الكونية نفسها؛ فعندما يصل الطاغية إلى ما يحسب أنه أقوى من أن يهزه أحد، يأتيه قدر الله من حيث لم يحتسب له أحد. سنن الله هذه لا علاقة لها بدين أو جنس أو لون؛ فالله ينصر المظلوم على ظالمه، لأنه عدلٌ لا يحب الظلم، أما عقائد الناس فشأنٌ آخر، وحسابٌ آخر.
 
فرعون مصر القديم لم يكن يخشى جيوش الغزاة، ولا أمم ذلك الزمان، وكان مطمئناً إلى انحناءة هامات الرجال في حضرة جبروته. بذلك حَكَم؛ فشيّد من عذابات الناس بيوتَه قصوراً، ومن أنينهم بنى أهراماته قبوراً، ولم يحتسب إلى أن الله قد يجعل نهايته في ضحكات طفل صغير يترعرع في قصره: اسمه موسى؛ هو الوحيد الذي نجا من بين أولاد بني إسرائيل الذين قتـَل زبانيتُه أولادهم واستحيوا نساءهم!. قال لشعبه في لحظة الحرج: إنْ موسى وهارون إلا ساحران جاءا ليذهبا بطريقتكم المُثلى... وزيّن الله شيطانه عمله إلى أن قاده إلى قلب اليمّ، فأطبقه الله عليه، فلما أيقن بالهلاك: قال آمنت الآن، فلم يُغنه ذلك من أن يكون عبرة تتذكرها الأمم اللاحقة، كلما رأت مومياءه التي اكتشف سرها موريس موكاي بعد آلاف السنين!.
 
ولأن سُنن الله فوق التبدل بتغير الزمان والمكان؛ لم يستثنِ التاريخ أنظمة الاستبداد الحديث؛ التي انتصرت عليها شعوبها أمثال: نظام دكتاتور الباراغوي ألفريدو ستروسنر، ودكتاتور تشيلي  أوغوستو بينوشيه، والدكتاتور الإثيوبي منغستو ميريام، والرئيس التشادي حسين حبري، والرئيس الإفريقي جان بوكاسا، والطاغية الروماني نيكولاي تشاوشيسكو... فضلاً عن الطغاة الذين سقطوا بفعل حروب خارجية أو أوقفتهم العدالة الدولية.
 
ومن آخر هؤلاء عربياً؛ نظام زين العابدين بن علي، الذي قتل أو سجن أو نفى أو أخضع المعارضين كلهم، ولم يحتسب أن نهايته سيكتبها بائع خضار، صفعه شرطي وبصق عليه، فأحرق نفسه، وأشعل الثورة. بن علي كان طاغوتاً يتجمّل؛ حارب الله في شرعه. مزّق زبانيته حجاب النساء في بلدٍ مسلمٍ كله. قيّد القرآن، وصوت الأذان، وسنن الإسلام، وقهر أبوّة رجل لم تنجب زوجته، فحرّم عليه زواجاً شرعيا. في عهده صار المطالبون بالحرية مجرمين، وبنات وزوجات المطاردين السياسيين سبايا، وبات الدخول إلى المسجد من خلال بطاقة ممغنطة يصدرها جهاز المخابرات!. نشر بن علي الرذيلة باسم السياحة، ونهب وبناتُه وأزواجُهن الخيرات... حتى خضرة الزيتون في الأشجار التونسية. زرع نظامه الجوع والذل في الناس ألواناً وأشكالاً... حتى صرخ خضير بو عزي من وسط النار: من أجلك يا تونس العظيمة، فتذكّر الناس أبياتاً لابنهم أبي القاسم الشابي، وأشعلوا -كما أراد القدر- ثورة الياسمين التونسية، وفي بضعة أيام دفنوا أربعةً وعشرين عاماً؛ من نظامٍ ما كانت أبهى أحلامُهم تتخيل أنه سيغرب عنهم... حتى لكأنهم لم يصدّقوا ما فعلت قبضاتهم الغاضبة في عالم الحقيقة!.     

قبل ذلك بست سنوات –تقريباً- أحرقت النيران في بيروت رفيق الحريري وصحبه الشهداء. ما كان يظن كثيرون أن اسم رفيق الحريري سيختلف عمن سبق، حداداً وتعزيةً وذكراً لمآثر "الراحل الكبير"، ثم يُطوى كما الذين سبقوه... لكن الله أراد أن يكون الحريري مختلفاً!. قبل 14 شباط 2005 ما كان بالإمكان أن يُزحزح النظامَ الأمني أحد، ولا أن يرهبه أحد؛ فلبنان كان الورقة التي كسبها في "لعبة الأمم"، ولا يريد تركها ولو اضطر إلى استعمال هراوات، وملء سجون، أو قتل أو إخفاء أو نفي معارضين، أو حبك روايات إرهابٍ تذكّر مفوضيه "المستكبرين" بأنه ما يزال حاجةً لهم؛ فلما صرخ رفيق الحريري والنار تحرقه؛ أشعلت أنفاسُه ثورة الأرز، التي لأَمَت جراحاً بين المسلمين والمسيحيين عمرها ثلاثون عاماً، وأسقطت ظلماً امتد لثمانية وعشرين عاماً، لكن "فقه الثورات" يقول إن نار الثورة تخبو بفعل الزمن، والتسويات، وأنانيات أبنائها... فإما أن تأكل الثورة أولادها، أو تضعف فتسمح للنظام نفسه، أو لظلمٍ آخر، أن يتمدد فيقوى... إلى أن يأتي يوم تتجدد فيه الثورة أو تولدُ ثورة جديدة!.
 
في الأسبوعين الماضيين؛ شهدت أرض الكنانة "حرائق" أولية، كمن يشعل عود الثقاب محاولاتٍ موؤودة قبل أن ينجح... ثم ثار الشباب في مصر كما تثور رياح الخماسين فوق رمل الصحراء اللاهبة، وأثبت للمشككين بنخوة العرب أنهم شعب يستحق الكرامة والحياة. ما كان ينبغي لمن يحكمهم أن يستخفّهم إلى الحد الذي يشطب فيه هامش التمثيل الحقيقي الضئيل، الذي تركه لهم في الدورات الانتخابية السابقة، وما كان يصح أن يقول عن المخنوقين: "سِبهم يتسلّوا"، وما كان يمكن أن تصل الرغبة بتخطي إرادة وكرامة الناس دون أن ينفجر بركان الغضب... ويقول -بعد ثلاثين عاماً- لحسني مبارك: "ارحل. مش عايزينك. مش حنتفاوض معاك".
 
إنه جدار الخوف الذي تخطاه الشعب اللبناني والتونسي والمصري، وكأنه كان يفصل بين الجنة والنار؛ فلما سقط أشرقت شمس الحرية؛ فعاد المنفيون، واستيقظ الراقدون، وتمجّد المضحّون... واستلهم العبرَ الباقون، شعوباً تتهيأ وأخرى بدأت، والموجة لن تترك أحداً، بمن فيهم أولئك الذي يُلقون اليوم دروساً في الحرية والديمقراطية، على أساس أنهم أئمة العدل في العاصمة الفاضلة، مع أن عوراتهم -إن ظهرت- ستكون أخزى وأشد سوءا. 
 
من أجل ذلك؛ يتحسس حكام منطقتنا اليوم كراسيهم جيداً، ليتأكدوا أنهم ما زالوا عليها، وأن صبر شعوبهم لم يبلغ لحظة الطفرة، وأن شبح النظام ما زال يدخل إلى روع النفوس، حتى وهي نائمة، لكن نواميس الحياة غلاّبة، فلا قول وزير الخارجية المصري: "إن انتقال ما جرى في تونس إلى مصر كلام فارغ" صَدَق، ولا أراجيز الذي يتحدثون عن اختلاف الأوضاع في بلادهم ستصدق، وإن غداً لناظره قريب، فإن لم يكن غداً فبعد حين... لكنه حتمٌ ويقين.      
 

: 2011-02-02
طباعة