مع العدالة ولكن ضد المحكمة !

"مع العدالة ولكن ضد المحكمة": كلام لا يعني إلا رفض العدالة!


فادي شامية


يعتمد مناهضو المحكمة الدولية اليوم على المعادلة الآتية: "تأييد العدالة ورفض المحكمة"، استناداً إلى أن مسار التحقيق الدولي، وتالياً المحكمة، قد "شابه كثير من مظاهر التسييس"، ما يعني أنه لن يفضي إلى الحقيقة في جريمة اغتيال الرئيس الحريري وما تلاها. فهل تقوم هذه المعادلة على أسس منطقية؟ وهل أصحابها صادقون في قبولهم العدالة؟!.  


من المعلوم أن العدالة في قضية اغتيال الرئيس الحريري وبقية الجرائم، تقوم على ركنين؛ ركن الحقيقة وركن الجزاء، ونحن –بعد نحو ست سنوات- ما زلنا في مرحلة معرفة الحقيقة، التي سيكشفها -أو يكشف معظمها- القرار الاتهامي المرتقب، ولم نصل بعد إلى مرحلة الجزاء، الذي قد لا يقع فعلياً على المتهمين، وإنما تجري محاكمات غيابية لهم، على أمل إلقاء القبض عليهم في وقت لاحق.


ومعنى ذلك، أن رفض المحكمة، هو في الواقع رفض للقرار الاتهامي، لأنه لا يمكن عقلاً اتهام المحكمة بالانحياز وهي لم تبدأ محاكماتها بعد، في حين أن القرار "العملي" الوحيد الذي أصدرته المحكمة -بعد قيامها- هو قرار إخلاء سبيل الضباط الأربعة الذين تسلّمتهم من القضاء اللبناني، تطبيقاً لنظامها الذي لا يجيز احتجازهم لآجال مفتوحة، فكان قرار إخلاء السبيل عشية الانتخابات النيابية عام 2009، ما يصعب معه القول إن المحكمة كانت منحازة!.


ولأنه ثمة خلط في المفاهيم على نحو متعمد، فإن شعار: "مع العدالة وضد المحكمة"، يعني في الواقع: "ضد الحقيقة -المسيسة بنظرهم- وضد القرار الاتهامي"، ذلك أن العدالة الآن تتمثل بالحقيقة، والمحكمة لم تبدأ محاكماتها بعد، وإن ما يسعى إليه مناهضو العدالة –ليس نقد هذا التحليل- وإنما إثبات أن التحقيق الدولي لن يوصل إلى حقيقة مجردة من التسييس، استناداً إلى جملة من الشبهات التي أثاروها، لكن حتى هذه الشبهات - لو صحت- لا تعني قبولهم بالحقيقة، لأن هذا الفريق لا يقدّم بديلاً موصلاً إلى الحقيقة، إلا نسيان قضية الحريري وباقي الشهداء!.


فالأجهزة الأمنية والتحقيقية اللبنانية –كبديل محتمل- لا يمكن أن تكون قادرة على كشف الحقيقة؛ لأنها تورطت –كما هو معلوم- في محاولة طمس معالم الجريمة عند وقوعها، في زمن الوصاية السورية، كما أنها لم تتخلص بعد من بقايا النفوذ السوري وحلفائه في الداخل، فضلاً عن أن تاريخ الجريمة السياسية في لبنان لا يبشر بإمكانية اكتشاف أية جريمة، وهي على كل حال بحاجة إلى الاستعانة بخبرات ومختبرات وأجهزة مخابرات في الخارج لتنجز مهمتها، والأهم أنه لو صح تورط طرف داخلي في الجريمة، فهل سيسمح هذا الطرف في استمرار التحقيقات، وهو الذي يهدد المجتمع الدولي بأسره ليعيق التحقيق؟! ومن يضمن أمن المحققين في هذه الحالة (وسام عيد نموذجاً)؟ وأي قاضي تحقيق سيقبل أن يحمل عبء هذه المهمة، ويسير بها للنهاية، فيما السلاح بات جزءاً من معادلة الحياة السياسية والأمنية والقضائية والاجتماعية في لبنان؟!. 


أما لجنة التحقيق العربية -كبديل نظري ثانٍ- فهي مشكلة بحد ذاتها؛ لأنها إما أن تتشكل من دول محور "الاعتدال"، المتهمة سلفاً من قبل فريق من اللبنانيين، وإما أنها ستتكون من محققين ينتمون إلى محور "الممانعة" – سوريا بالتحديد-، أي ممن هو مشكوك في براءته، أو تتشكل من محققين من كل هؤلاء، بحيث لا يتقدم التحقيق أبداً، ويتجسس كل فريق فيه على الآخر، ويصبح الشهود هم الضحايا الجدد!. 


الأهم من ذلك كله، أن هذه الخيارات ليست خيارات عملية، لأنه بعد ست سنوات على وقوع الجريمة، وبعد طمس معالمها، وردم حفرة السان جورج... لم يعد لأحد أن يدعي إمكانية القيام بتحقيق إلا بالاستناد إلى التحقيقات المتتالية التي قامت بها لجان التحقيق الدولي بالتعاون مع الدولة اللبنانية، وتالياً فإنه لا بديل عن القرار الاتهامي للجنة التحقيق الدولي إلا هذا القرار الاتهامي نفسه!. ثم إنه ليس من المنطق -بعد هذه المعاناة كلها، وبعد الإجماع على التحقيق الدولي، والتعاون معه حتى من قبل "حزب الله"-، ألا ننتظر إعلان القرار الاتهامي بعد أيام أو أسابيع، لننظر في أدلته ونبني على الشيء مقتضاه، فإن كان ضعيفاً ينهار الهيكل من تلقائه، وإن كان قوياً تكون الحقيقة قد ظهرت... وإن أي كلام غير ذلك لا يعني –بالإذن من مناهضي المحكمة- إلا تعبيراً عن الخوف من ظهور الحقيقة المدعمة بالأدلة القاطعة!.


بقي التذكير بأن الحجج المؤسسة لرفض القرار الاتهامي لم تظهر اليوم، حتى يجوز تغيير الموقف من القرار الاتهامي-الذي لم يعلن بعد-، وأن تقرير دير شبيغل، الذي زعم أن طرفاً داخلياً لبنانياً متورط بالجريمة– والذي يقول "حزب الله" بأن القرار الاتهامي يحمل المضمون نفسه-، قد صدر في أيار 2009، أي قبل ستة أشهر من تشكيل حكومة الرئيس سعد الحريري، التي شارك فيها "حزب الله" على أساس بيان وزاري يقول: "تؤكد الحكومة، في احترامها للشرعية الدولية ولما اتُفقَ عليه في (جلسات) الحوار الوطني، التزامها التعاون مع المحكمة الخاصة بلبنان".


وبالتالي، فإن تنصل أقطاب فريق 8 آذار من موافقاتهم السابقة؛ بدعوى أنهم وافقوا على العدالة ولم يوافقوا على المحكمة، أو أنهم وافقوا على المحكمة ثم تبين لهم أنها مسيسة (أي التحقيق)... ليس إلا كلاماً سياسياً مخادعاً، وهم يعرفون قبل سواهم أنه غير مستند إلى حقائق!.

: 2011-02-19
طباعة