لماذا كاشف نصر الله جمهوره؟

الكشف عن الاختراقات الأمنية الثلاثة أحرج "حزب الله":


لماذا كاشف نصر الله جمهوره؟


المستقبل - الثلاثاء 28 حزيران 2011


 فادي شامية


في إطلالته الأخيرة مساء الجمعة 24/6/2011، تحدث السيد حسن نصر الله في موضوع غير مسبوق على لسانه أو لسان أي من قيادات "حزب الله". قال نصر الله: "بناء على التحقيق والمعطيات؛ بين أيدينا ثلاث حالات، حالتا علاقة مع الـCIA، وحالة ثالثة ما زلنا نتثبت من علاقتها بالـ CIA أو بجهاز مخابرات أوروبي أو بالموساد... لن أذكر الأسماء احتراماً وحفاظاً على عائلاتهم الكريمة والشريفة... (أ. ب) تم تجنيده حديثاً - (م. ح) تم تجنيده في فترة أقدم من الحالة الأولى - (م.ع) تأكدنا من ارتباطه الأمني مع جهة خارجية. وهذه الحالات الثلاث ـ ضمن التحقيق معهم ـ اعترفوا، والأدلة عليهم قطعية، وللأسف الشديد أنهم سقطوا في هذا الامتحان".


مكابرة... فإحراج


كان واضحاً في الكلمة إياها حجم الإحراج الذي شكّله هذا الموضوع لقيادة "حزب الله"، فنصرالله بدأ بوصف الموضوع بـ "الحساس ومن الممكن أن يكون غير مألوف"، ثم أطنب في توجيه سامعيه إلى الجانب الذي يريد هو أن يضيء عليه في الموضوع، وقد لخّصه بالقول: "حيث عجز الإسرائيلي، استعان بأقوى جهاز مخابرات في العالم لاختراق بنية "حزب الله". هكذا يجب أن ننظر للموضوع". وبعد أن ذكر جملة من الوقائع، عقّب بالقول: "واضح أن العجز الإسرائيلي حتى الآن ما زال موجوداً ما أدى إلى الاستعانة بأقوى جهاز مخابرات في العالم. أميركا (تعتبر) دولة صديقة، وهو محمي وموجود في السفارة ويجول بسيارات ديبلوماسية. المخابرات الأميركية تتمتع بإمكانات بشرية وتقنية وأمنية ضخمة جداً، واستعانوا بها".


وهكذا ظلت مقاربة نصر الله للموضوع تدور بين ثلاث نقاط:


ـ أولاً: أن المخابرات الأميركية جهاز قوي جداً، وواضح هنا سبب التركيز على إمكانات المخابرات الأميركية.


ـ ثانياً: أن "حزب الله" حقق انجازاً بكشف الحالات الثلاث، وأنه انتقل إلى "مرحلة جديدة من صراع الأدمغة الأمنية"، وهو الجانب الذي عاد وركّز عليه حلفاء الحزب السنّة والمسيحيون (التيار العوني)، في بيانات عديدة أصدروها، بناءً لطلب الحزب، بقصد التخفيف من حجم الصدمة.


ـ ثالثاً: أن الخرق ليس إسرائيلياً وإنما أميركي!. وفي هذه النقطة بالذات بدا خطاب نصر الله مضطرباً جداً، فهو قال: "ما بين أيدينا الآن ليست حالات عمالة لإسرائيل" ثم عاد ليقول: "المعلومات التي طلبها ضباط الـ CIA من هؤلاء الشباب هي معلومات لا تهم الإدارة الأميركية بقدر ما هي تفاصيل عسكرية وأمنية تهم إسرائيل"! فضلاً عن إقراره بأن الحالة الثالثة تعمل مع الـ CIA أو جهاز مخابرات أوروبي أو "الموساد".


وفي الحقيقة، أنه على فرض صحة علاقة هذه الحالات الثلاث بالـ CIA حصراً، فإن هذا لا ينفي أن هذه العناصر ـ وهي مدربة أمنياً ـ كانت تعلم أن ما تدلي به من معلومات هو لمصلحة "الموساد"، وتالياً أنها تعمل لمصلحة العدو بغض النظر عن الستار الظاهر، وهذا ما أقر به نصر الله نفسه.


لكن وجه الإحراج ليس هنا؛ فجميع الأحزاب مهما كانت عقائدية قابلة للاختراق، وسقوط عدد قليل جداً من الأفراد في فخ العمالة للعدو ليس حالة خارج المألوف، بل إن بعضاً من خير البشر في عصور الأنبياء والصالحين فشلوا في امتحان الولاء والإخلاص. لذا فإن إحراج نصر الله يكمن في أنه وضع حزبه في خانة غير بشرية عندما قال في 16/7/2010 حرفياً: "جسم المقاومة منزّه عن الاختراق"، ثم إذ به يجد نفسه مضطراً للإقرار بوجود اختراق، حاول أن يخفف منه بالتركيز على أنه اختراق أميركي وليس إسرائيلياً، وبأن جهاز أمن الحزب حقق إنجازاً باكتشافه.


لماذا تكلّم نصر الله بالموضوع؟


بناءً على ما تقدم، يُطرح السؤال الآتي: ما الذي أجبر نصر الله على التطرق الى الموضوع والتعرض لـ "البهدلة والجرصة" التي تتعرض لها الأحزاب المخترقة، كما قال هو نفسه؟. علّل الأمين العام لـ "حزب الله" ذلك بالدواعي الشرعية والأخلاقية، وهي اعتبارات واردة، لكن هل كان بمقدور السيد نصر الله تجاهل الموضوع أصلاً؟.


تشير المعلومات من الضاحية الجنوبية لبيروت الى الآتي:


ـ أولاً: اضطر "حزب الله" في إطار تحقيقاته حول الموضوع إلى تنفيذ انتشار أمني كبير ومُلاحظ، وإلى اعتقال أكثر من شخص معروف في الحزب والتحقيق معه، الأمر الذي أثار قلقاً لدى قواعد المحازبين والمؤيدين، خصوصاً أن هذه الأخبار أخذت بالانتشار بين الناس، ووصلت إلى الإعلام، ودخلت عليها الشائعات، وتناولتها وسائل إعلامية بشكل مضخم، فكان ثمة ضرورة لحسم الأمر، عبر تقديم الحقائق بقدر معين.


ـ ثانياً: أثار اختفاء بعض الأشخاص لمدة معينة، وانتشار أسماء محددة على أنها عميلة ـ أكثرها أو بعضها لم تكن له علاقة أصلاً ـ اضطراباً كبيراً في أوساط "حزب الله"، وأساء إلى سمعة عائلات كبيرة داعمة له، وقد قدّم أكثرها شهداء في صفوف الحزب المذكور، الأمر الذي جعل نصر الله يطل على الجمهور من أجل مكاشفته وتهدئته ـ وهو السبب الأساس للكلمة الأخيرة ـ وحمايته من "الوقوع في فخ الحرب النفسية"، كما أسماها نصر الله في الكلمة إياها.


ـ ثالثاً: سببّت هذه الأجواء ـ بعضها حقائق والبعض الآخر شائعات ـ إحباطاً نفسياً لدى جمهور "حزب الله" عموماً، وإشكالات واتهامات وشكوكاً داخل الحزب نفسه، خصوصاً أن ما تسرّب يمكن أن يودي بحياة أشخاص غير معروفين سابقاً، ويهدم عمل سنوات من العمل بعيداً عن عيون العدو.


وعليه، فقد كان تطرُّق نصر الله الى الموضوع أمراً لا مناص منه، من أجل الحزب، وللحفاظ على سمعته بين مناصريه، فضلاً عن ضرورة رفع المعنويات، ووضع الأمور في نصابها، والتخفيف من حجم الصدمة.


هامشيون في الحزب أم أساسيون؟


في كلمته أيضاً، أوحى السيد نصر الله بأن العناصر الثلاثة المكتشفة هامشية في الحزب، من خلال تأكيده ما يأتي: "ليس بين هذه الحالات الثلاث أي أحد من الصف القيادي الأول خلافاً للشائعات" ـ "ليس بينهم رجل دين" ـ "ليس بينهم أحد من الحلقة القريبة من الأمين العام" ـ "ليس لأحد منهم علاقة لا بالجبهة ولا بالوحدات العسكرية الحساسة" ـ لا يملكون "معلومات حساسة يمكن أن تلحق ضرراً ببنية المقاومة".


نصر الله، بصفته مؤتمناً على الحزب وسمعته وأمنه لا يُتوقع منه ـ مهما أراد الوضوح مع جمهوره ـ أن يقول أكثر مما قال، بل لعله قال أكثر من اللازم ـ وفق عارفين بأمنيات الحزب ـ، عندما ذكر الأحرف الأولى لأسماء المتهمين، ذلك أن هذه الأحرف تطابقت مع الأسماء التي كان يتداولها الناس، فـ (م.ع) الذي ذكره نصر الله هو (م. عطوي) الذي تردد اسمه كثيراً على الألسن في الضاحية الجنوبية في الأسبوع الأخير، وهذا الرجل، وإن صنّفه نصر الله خارج الصف الأول، فإنه معروف بنشاطه العسكري في الحزب، أما (م.ح) فهو (م. الحاج) المعروف في مجال التدريب في صفوف الحزب و"سرايا المقاومة"، والمعلومات التي يمكن أن يسربها للعدو الإسرائيلي (عبر المخابرات الأميركية وفق ما أشار السيد نصر الله) خطيرة ومميتة.


ولا يهم في هذا المجال فترة ارتباط هذا الرجل بالجهات المخابراتية، وإنما المهم حجم المعلومات التي أعطاها، لأن الضرر يمكن أن يتحقق برسالة واحدة تحوي مئات العناصر المهمة للعدو الإسرائيلي.


من جهة أخرى، فإن ما أعلن عنه نصر الله لم يكن سوى الحالات التي تأكدت عمالتها واعترفت، لكن المعلومات المتداولة تشير إلى وجود "حالات" قيد التحقيق، وأن عناصر أخرى يشتبه في أنها كانت تعلم، أو أنها سهلت الأمر، لا تزال تخضع للتحقيق أيضاً.


هل لهذا الإعلان علاقة بالمحكمة الدولية؟


رغم رواج الكلام في هذا المجال، إلا أنه يصعب الجزم بذلك، فما يُحكى عن كشف "حزب الله" لهذه الحالات بالذات للقبول لاحقاً بفرضية "العناصر غير المنضبطة"، يبقى مجرد تحليلات، لأن "حزب الله" رفض هذه الفرضية ابتداءً، كما رفضها السيد نصر الله في الخطاب الأخير عندما جزم بعدم علاقة أي من هؤلاء بالمحكمة الدولية، وأن هذه الأسماء الثلاثة "لم يؤتَ على ذكرها لا في "ديرشبيغل" ولا في كل وسائل الفضائح التابعة للمحكمة الدولية"، معقباً بالقول: "موضوع المحكمة منتهٍ (عندنا) من زمان" (وهذا الكلام برسم لجنة صياغة البيان الوزاري التي تجهد في صياغة لغوية حول المحكمة فيما الموقف منها واضح وصريح)، فضلاً عن أن تقدم التحقيق وما وعد به القاضي دانيال بلمار؛ أن القرار الاتهامي سيحتوي على "أدلة دقيقة وتفصيلية ولا يرقى إليها الشك"، يجعل من فرضية العناصر غير المنضبطة ساقطة حكماً.


وبغض النظر عن صحة هذا التحليل من عدمه، فإن أول من أثار هذا الربط إعلامياً (عناصر مخترقة في "حزب الله" نفذت الاغتيال) ليس إعلام فريق الرابع عشر من آذار وإنما الإعلام الآخر، وذلك عندما تناولت مواقع الكترونية عديدة هذا الموضوع، وصولاً إلى تناول جريدة "الأخبار" ـ بعد مدة ـ (22/2/2011) نوعاً من الربط في مقال زعمت فيه الصحيفة ـ القريبة من "حزب الله" ـ أن بلمار سحب اسم الشاهد الملك (علي أ.) من نص القرار الاتهامي، وأن هذا الشاهد هو مسؤول سابق في الحرس الثوري الإيراني برتبة جنرال، استُبعد خوفاً من افتضاح عمالته للموساد الإسرائيلي، وأنه شهد بأن "قائد لواء القدس في الحرس الثوري الإيراني الجنرال قاسم السليماني أعطى أمر اغتيال رفيق الحريري من دون علم قيادة حزب الله".


أين الدولة؟


لعل من حق المتابع لما جرى أن يسأل: أين الدولة من هذا كله؟ ذلك أننا ما زلنا أمام قضية في عهدة "حزب الله"، رجاله ـ ورجاله فقط ـ من يتولى اعتقال المشتبه بهم، وجهازه الأمني ـ فقط ـ يتولى التحقيق، وأمينه العام يتولى ـ فقط ـ الإعلان عن النتائج، وأجهزة الدولة اللبنانية لا تعلم أكثر مما سمعت من السيد نصر الله، أو ما تلقّطته وسائل الإعلام! هذا مع العلم أن علاقة "حزب الله" ونفوذه معروف لدى الجهاز الأمني الذي يسلّمه الحزب في العادة من يعتقلهم، أي مخابرات الجيش، كما أن نفوذه معروف وواضح لدى المحكمة العسكرية، الجهة التي يُفترض أن تتولى المحاكمة، وفوق ذلك كله، فقد باتت الحكومة بيده، ووزارة العدل نفسها مع حليفه الجنرال ميشال عون... فإذا كان الحزب لا يثق بالدولة، والحال هذه، فمتى إذاً؟.


 


على أي حال، ورغم ما سبق كله، والخصومة السياسية لقسم كبير من اللبنانيين مع "حزب الله،" إلا أن العمالة للعدو تبقى عمالة، والإعلان عن اكتشاف هذه الحالات الثلاث ينبغي ألا يثير الشماتة أبداً، والإضاءة على جوانب محددة؛ بما فيها الإحراج لقيادة الحزب، يجب ألا يغيّب النظرة إلى الموضوع بروحٍ وطنية، تقبّح العمالة، وتدينها قبل أي شيء آخر.


 

: 2011-06-29
طباعة