عدالةُ الصحابة:
العدالةُ لغةًً:
جاء في الصحاح للجوهري: العدل خلاف الجور، يقال: عدل عليه في القضية فهو عادل، وبسط الوالي عدله ومعدِلته ومعدَلته، وفلان من أهل المَعدلة،
أي: من أهل العدل، ورجل عدل، أي: رضا ومقنع في الشهادة..
إلى أن قال: وتعديل الشيء: تقويمه، يقال: عدلته فاعتدل، أي: قومته فاستقام.
واصطلاحًا: تنوعت عبارات العلماء في تعريف العدالة في الاصطلاح:
فعرفها الخطيب البغدادي في "الكفاية" بقوله: العدل هو مَن عُرِف بأداء فرائضه، ولزوم ما أُمِر به وتوقِي ما نُهِيَ عنه، وتجنب الفواحش المسقطة وتحرَّى الحق والواجب في أفعاله ومعاملته والتوقي في لفظه مما يثلم الدين والمروءة؛ فمن كانت هذه حاله فهو الموصوف بأنه عدل في دينه ومعروف بالصدق في حديثه، وليس يكفيه في ذلك اجتناب كبائر الذنوب التي يسمى فاعلها فاسقًا حتى يكون مع ذلك متوقيًا لما يقول كثير من الناس أنه لا يعلم أنه كبير.
وذهب ابن همام في تعريف العدالة كما في كتابه "التحرير" إلى أنها: ملكة تحمل على ملازمة التقوى والمروءة؛ والشرط أدناه ترك الكبائر، والإصرار على صغيرة، وما يخل بالمروءة.
وعرف القرافي العدالة في كتابه "شرح تنقيح الفصول" بأنها: اجتناب الكبائر وبغض الصغائر والإصرار عليها، والمباحات القادحة في المروءة.
وقال الحافظ ابن حجر في "نزهة النظر": المراد بالعدل من له ملكة تحمله على ملازمة التقوى والمروءة؛ والمراد بالتقوى: اجتناب الأعمال السيئة من شرك أو فسق أو بدعة.
هذه بعض تعريفات أهل العلم للعدالة في الاصطلاح؛ وهي وإن تنوعت عباراتها إلا أنها ترجع إلى معنى واحد وهو أن العدالة: ملكة في النفس تحمل صاحبها على ملازمة التقوى والمروءة، ولا تتحقق للإنسان إلا بفعل المأمور وترك المنهي، وأن يبتعد عما يخل بالمروءة، وأيضًا: لا تتحقق إلا بالإسلام والبلوغ والعقل والسلامة من الفسق.
والمراد بالفسق: ارتكاب كبيرة من كبائر الذنوب أو الإصرار على صغيرة من الصغائر؛ لأن الإصرار على فعل الصغائر يصيرها من الكبائر.
والمروءة التي ذكرها أهل العلم هي: الآداب النفسية التي تحمل صاحبها على الوقوف عند مكارم الأخلاق ومحاسن العادات.
وما يخل بالمروءة شيئان:ــ
الأول: ارتكاب الصغائر من الذنوب التي تدل على الخِسَّة، كسرقة شيء حقير كبصلة أو تطفيف في حبة قصدًا.
الثاني: فعل بعض الأشياء المباحة التي ينتج عنها ذهاب كرامة الإنسان أو هيبته وتورث الاحتقار، وذلك مثل كثرة المزاح المذموم.
ولم تتحقق العدالة في أحد تحققها في أصحاب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فجميعهم رضي الله عنهم عدول تحققت فيهم صفة العدالة، وما صدر منهم وهو يدل على خلاف ذلك كالوقوع في معصية، فسرعان ما يحصل منه التوجه إلى الله تعالى بالتوبة النصوح الماحية التي تحقق رجوعه وتغسل حوبته، فرضي الله عنهم أجمعين تعديل من الله تعالى ورسوله صَلَّى الله عليه وسلم للصحابة رضي الله عنهم أجمعين.
أولًا: دلالة القرآن على عدالة الصحابة:
تضافرت الأدلة من كتاب الله وسنة رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم على تعديل الصحابة الكرام، مما لا يبقى معها لمرتاب شك في تحقيق عدالتهم؛ فكل حديث له سند متصل بين من رواه وبين المصطفى صَلَّى الله عليه وسلم لم يلزم العمل به إلا بعد أن تثبت عدالة رجاله، ويجب النظر في أحوالهم سوى الصحابي الذي رفعه إلى النبي صَلَّى الله عليه وسلم؛ لأن عدالة الصحابة ثابتة معلومة بتعديل الله لهم وإخباره عن طهارتهم واختياره لهم بنص القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ومن ذلك:
قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]، ووجه الاستدلال بهذه الآية: أن معنى كلمة "وسطا": عدولًا خيارًا، وأنهم المخاطبون بهذه الآية مباشرة، كما جاء في تفسير الطبري، وتفسير القرطبي، وتفسير ابن كثير.
وذكر بعض أهل العلم أن اللفظ وإن كان عامًا إلا أن المراد به الخصوص، وقيل: إنه وارد في الصحابة دون غيرهم؛ فالآية ناطقة بعدالة الصحابة رضي الله عنهم قبل غيرهم ممن جاء بعدهم من هذه الأمة.
وقوله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110]، ووجه الاستدلال هنا: أنها أثبتت الخيرية المطلقة لهذه الأمة على سائر الأمم قبلها، وأول من يدخل في هذه الخيرية المخاطبون بهذه الآية مباشرة عند النزول وهم الصحابة الكرام رضي الله عنهم، وذلك يقتضي استقامتهم في كل حال، ومن البعيد أن يصفهم الله عز وجل بأنهم خير أمة ولا يكونوا أهل عدل واستقامة، وهل الخيرية إلا ذلك؟ كما أنه لا يجوز أن يخبر الله تعالى بأنه جعلهم أمة وسطًا ــ أي عدولًا ــ وهم غير ذلك؛ كما جاء في "الموافقات" للشاطبي.
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ ءَاوَوَّاْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: 74]، ففي هذه الآية وصف الله تعالى عموم المهاجرين والأنصار بالإيمان الحق ومن شهد الله له بهذه الشهادة فقد بلغ أعلى مرتبة العدالة.
وقوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100]، ووجه الدلالة: أن الله تعالى أخبر فيها برضاه عنهم، ولا يُثبت الله رضاه إلا لمن كان أهلًا للرضا، ولا توجد الأهلية لذلك إلا لمن كان من أهل الاستقامة في أموره كلها عدلًا في دينه.
وقوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: 18]، وهذه الآية فيها دلالة واضحة على تعديل الصحابة الذين كانوا مع النبي صَلَّى الله عليه وسلم يوم الحديبية، ووجه دلالة الآية على تعديلهم أن الله تعالى أخبر برضاه عنهم وشهد لهم بالإيمان وزكاهم بما استقر في قلوبهم من الصدق والوفاء والسمع والطاعة، ولا تصدر تلك التزكية العظيمة من الله تعالى إلا لمن بلغ الذروة في تحقيق الاستقامة على وفق ما أمر الله به.
وقوله تعالى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ... الآية} [الفتح: 29]، فهذا الوصف الذي وصفهم الله به في كتبه وهذا الثناء الذي أثنى به عليهم لا يتطرق إلى النفس معه شك في عدالتهم؛ كما جاء في تفسير القرطبي.
ثانيًا: دلالة السنة على عدالتهم رضي الله عنهم:
منها ما رواه الشيخان في صحيحيهما من حديث أبي بكرة أن النبي صَلَّى الله عليه وسلم قال: "ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب"؛ ووجه الدلالة: أن هذا القول صدر من النبي صَلَّى الله عليه وسلم في أعظم جمع من الصحابة في حجة الوداع، وهذا من أعظم الأدلة على ثبوت عدالتهم حيث طلب منهم أن يبلغوا ما سمعوه منه من لم يحضر ذلك الجمع دون أن يستثني منهم أحدًا.
ومنها ما رواه الشيخان أيضا في صحيحيهما من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم"... الحديث؛ ووجه الدلالة: أن الصحابة عدول على الإطلاق حيث شهد لهم النبي صَلَّى الله عليه وسلم بالخيرية المطلقة. إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة.
فالصحابة كلهم عدول بتعديل الله لهم وثنائه عليهم وثناء رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فليسوا بحاجة إلى تعديل أحد من الخلق.
أهميةُ معرفةِ عدالةِ الصحابةِ:
إن صحابة رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم هم الواسطة الذين بلغوا لنا هذا الدين، فإذا سقطت عدالتهم ضاع هذا الدين؛ لعدم التأكد من صحة نسبته للنبي صَلَّى الله عليه وسلم، ولكن من فضل الله علينا أنه قد بيّن لنا عدالة الصحابة في القرآن بما لا يدع مجالا للشك، وبيَّن ضلال من طعن في أحد منهم؛
قال تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر: 8]؛ ففي قوله: {يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} إخلاص النية، وفي قوله: {وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} تحقيق العمل، وقوله: {أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}، أي: لم يفعلوا ذلك رياء ولا سمعة،
ولكن عن صدق نية، ثم قال في الأنصار: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُو الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9]، فوصفهم الله بأوصاف ثلاث:
{يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ}، {وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا}، {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}، ثم قال تعالي بعد ذلك: {وَالَّذِينَ جَاءُو مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ ءَامَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10]، وهم التابعون لهم بإحسان وتابعوهم إلي يوم القيامة، فقد أثنوا عليهم بالأخوة، وبأنهم سبقوهم بالإيمان، وسألوا الله أن لا يجعل في قلوبهم غلًّا لهم، فكل من خالف في ذلك وقدح فيهم ولم يعرف لهم حقهم، فليس من هؤلاء الذين قال الله عنهم: {وَالَّذِينَ جَاءُو مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا...}.
ولما سُئِلت عائشة رضي الله عنها عن قوم يسبون الصحابة، قالت: لا تعجبوا، هؤلاء قوم انقطعت أعمالهم بموتهم، فأحب الله أن يجري أجرهم بعد موتهم! وقوله: {وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ ءَامَنُوا}، ولم يقل: للذين سبقونا بالإيمان؛ ليشمل هؤلاء السابقين وغيرهم إلى يوم القيامة، {رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}: ولرأفتك ورحمتك نسألك المغفرة لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان.
مذاهبُ الفرق الأخرى، والأقوال الشاذة في معنى عدالة الصحابة:
ذهبت بعض المذاهب إلى القول بخلاف هذا الإجماع، وأصحابها ممن لا يعتدُّ بقولهم ولا يعتبر بخلافهم، وهي لا تستحق أن تذكر، وإنما تذكر لبيان بطلانها ومجانبتها للحق والصواب:
أولًا: مذهب الشيعة الرافضة:
الشيعة الرافضة يعتقدون أن الصحابة الكرام رضي الله عنهم ليسوا بعدول، بل يعتقدون ضلال كل من لم يعتقد أن النبي صَلَّى الله عليه وسلم نص على أن الخلافة من بعده بلا فصل لعلي رضي الله عنه، ويعتقدون أن جميع الناس هلكوا، وارتدوا بعد أن قبض النبي صَلَّى الله عليه وسلم إلا نفرًا يسيرًا منهم يعدون على الأصابع؛ وسبب تكفيرهم لهم أنهم يزعمون أنهم بايعوا بالخلافة غير علي رضي الله عنه، ولم يعملوا بالنص عليه، ومعتقداتهم هذه طافحةٌ بها كتبُهم؛ كما في: "الاختصاص" للمفيد، و"الروضة من الكافي" للكليني.
ثانيًا: مذهب المعتزلة:
أما المعتزلة فقد اضطربت آراؤهم في عدالة الصحابة إلى ثلاثة أقوال؛ وإليك مختصرها:ــ
القول الأول: أن الصحابة جميعهم عدول إلا من قاتل عليًا، حيث إن الجمهور منهم صوبوا عليًا في حروبه وخطئوا من قاتله فنسبوا طلحة والزبير وعائشة ومعاوية إلى الخطأ؛ كما جاء في "مقالات الإسلاميين" لأبي الحسن الأشعري، و"الفَرْقُ بَيْنِ الفِرَقِ" للبغدادي.
القول الثاني: قول واصل بن عطاء، فقد ذهب إلى أن أحد الفريقين من الصحابة في موقعتي الجمل وصفين كان مخطئًا لا بعينه كالمتلاعنين، فإن أحدهما فاسق لا محالة، وأقل درجات الفريقين أنه غير مقبول الشهادة كما لا تقبل شهادة المتلاعنين. فقد قال: لو شهدت عندي عائشة وعلي وطلحة على باقة بقل، لم أحكم بشهادتهم؛ كما جاء في "المِلَلُ والنِحَلُ" للشهرستاني، و"ميزان الاعتدال" للذهبي، و"الفَرْقُ بَيْنَ الفِرَقِ".
القول الثالث: قول عمرو بن عبيد؛ فإنه يعتقد أن الطرفين المتحاربين في موقعتي الجمل وصفين قد فسقوا جميعًا، وقال: لا أقبل شهادة الجماعة منهم سواء كانوا من أحد الفريقين، أو كان بعضهم من حزب علي وبعضهم من حزب الجمل؛ كما جاء في "الفَرْقُ بَيْنَ الفِرَقِ"، و "المِلَلُ والنِحَلُ".
ثالثًا: أن حكمهم في العدالة حكم من بعدهم في لزوم البحث عن عدالتهم عند الرواية. وهو قول أبي الحسين القطان من علماء الشافعية، كما حكى ذلك السخاوي في "فتح المغيث"، و"الإحكام في أصول الأحكام" للآمدي.
رابعًا: أن العدالة لا تثبت إلا لمن لازم النبي صَلَّى الله عليه وسلم من أصحابه دون من رآه، أو زاره، أو وفد عليه لمدة قليلة. وهو قول المازري من علماء المالكية، كما حكى ذلك عنه ابن حجر في "الإصابة في معرفة الصحابة".
فهذه هي المذاهب التي خالف فيها أصحابها إجماع أهل السنة والجماعة في مسألة عدالة الصحابة، فهي كما رأينا مبنية على شبه واهية لا تزيدها إلا ضعفًا.
لقد اتفق أهل السُنَّة على أن جميع الصحابة عدول، ولم يخالف في ذلك إلا شذوذ من المبتدعة، وقد ذكر الخطيب في "الكفاية" فصلا نفيسًا في ذلك فقال: عدالة الصحابة ثابتة معلومة بتعديل الله لهم، وإخباره عن طهارتهم، واختياره لهم في آيات كثيرة سبق ذكر بعضها، وأحاديث شهيرة يكثر عددها؛ فجميع ذلك يقتضي القطع بتعديلهم ولا يحتاج أحد منهم مع تعديل الله له إلى تعديل أحد من الخلق؛ على أنه لو لم يرد من الله ورسوله فيهم شيء مما ذكرناه لأوجبت الحال التي كانوا عليها من الهجرة، والجهاد، ونصرة الإسلام ببذل المهج، والأموال، وقتل الآباء، والأولاد، والمناصحة في الدين، وقوة الإيمان، واليقين القطع بتعديلهم، والاعتقاد بنزاهتهم هذا مذهب كافة العلماء، ومن يعتمد قوله ولم يخالف فيه إلا شذوذ من المبتدعة الذين ضلوا وأضلوا، فلا يلتفت إليهم ولا يعول عليهم، وقد قال إمام عصره أبو زرعة الرازي من أَجَلِّ شيوخ مسلم: إذا رأيت الرجل ينتقص أحدا من أصحاب رسول الله فاعلم أنه زنديق؛ وذلك أن الرسول حق، والقرآن حق، وما جاء به حق وإنما أدى إلينا ذلك كله الصحابة فمن جرحهم إنما أراد إبطال الكتاب والسُنَّة؛ فيكون الجرح به ألصق والحكم عليه بالزندقة والضلالة والكذب والفساد هو الأقوم الأحق.
قال أبو محمد بن حزم: "الصحابة كلهم من أهل الجنة قطعًا؛ قال الله تعالى: {لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد: 10]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء: 101]، فثبت أن جميع الصحابة من أهل الجنة، وأنه لا يدخل أحد منهم النار؛ لأنهم المخاطبون بالآية السابقة.
فإن قيل: التقييد بالإنفاق والقتال يخرج من لم يتصف بذلك، وكذلك التقييد بالإحسان في الآية السابقة وهي قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ} [التوبة: 100] الآية، يخرج من لم يتصف بذلك وهي من أصرح ما ورد في المقصود، ولهذا قال الماذري في "شرح البرهان": لسنا نعني بقولنا: الصحابة عدول كل من رأى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يومًا ما، أو زاره لماما، أو اجتمع به لغرض وانصرف عن كثب؛ وإنما نعني به الذين لازموه وعزروه ونصروه، واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون.
والجواب عن ذلك أن التقييدات المذكورة خرجت مخرج الغالب، وإلا فالمراد من اتصف بالإنفاق والقتال بالفعل أو بالقوة، وأما كلام الماذري فلم يوافق عليه؛ بل اعترضه جماعة من الفضلاء؛ وقال الشيخ صلاح الدين العلائي: هو قول غريب يخرج كثيرًا من المشهورين بالصحبة والرواية عن الحكم بالعدالة؛ كوائل بن حجر، ومالك بن الحويرث، وعثمان بن أبي العاص وغيرهم، ممن وفد على النبي صَلَّى الله عليه وسلم، ولم يقم عنده إلا قليلًا وانصرف، وكذلك من لم يُعرف إلا برواية الحديث الواحد، ولم يعرف مقدار إقامته من أعراب القبائل. والقول بالتعميم هو الذي صرح به الجمهور، وهو المعتبر، والله أعلم.
ومما رُدَّ به عليه أن تعظيم الصحابة وإن قل اجتماعهم به كان مقررا عند الخلفاء الراشدين وغيرهم، وقد صح عن أبي سعيد الخدري أن رجلا من أهل البادية تناول معاوية في حضرته، وكان متكئا فجلس ثم ذكر أنه وأبا بكر ورجلا من أهل البادية نزلوا على أبيات فيهم امرأة حامل، فقال البدوي لها: أبشرك أن تلدي غلامًا، قالت: نعم، قال: إن أعطيتني شاة ولدت غلامًا فأعطته فسمع لها أسجاعًا، ثم عمد إلى الشاة فذبحها وطبخها وجلسنا نأكل منها، ومعنا أبو بكر فلما علم القصة قام فتقيأ كل شيء أكل، ثم رأيتُ ذلك البدوي قد أتي به عمر وقد هجا الأنصار، فقال لهم عمر: لولا أن له صحبة من رسول الله ما أدري ما قال فيها لكفيتكموه. فانظر توقف عمر عن معاتبته فضلا عن معاقبته لكونه علم أنه لقي النبي تعلم أن فيه أبين شاهد على أنهم كانوا يعتقدون أن شأن الصحبة لا يعدله شيء.
قال ابن عبد البر في "الاستيعاب في معرفة الأصحاب": إن أولى ما نظر فيه الطالب، وعني به العالِم بعد كتاب الله عز وجل سنن رسوله صلى الله عليه وآله وسلم؛ فهي المبينة لمراد الله عز وجل من مجملات كتابه، والدالة على حدوده، والميسرة له، والهادية إلى الصراط المستقيم صراط الله؛ من اتبعها اهتدى ومن سلك غير سبيلها ضل وغوى، وولاه الله ما تولى؛ ومن أوكد آلات السنن المعينة عليها والمؤدية إلى حفظها:
معرفة الذين نقلوها عن نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم إلى الناس كافة، وحفظوها عليه، وبلغوها عنه، وهم صحابته الحواريون الذين وعوها، وأدوها ناصحين محسنين حتى كمل بما نقلوه الدين وثبتت بهم حجة الله تعالى على المسلمين، فهم خير القرون وخير أمة أخرجت للناس، وقد أثنى الله عز وجل عليهم، ورضي رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم عنهم. ثبتت عدالة جميعهم بثناء الله عز وجل عليهم، وثناء رسوله عليه السلام ولا أعدل ممن ارتضاه الله لصحبة نبيه ونصرته ولا تزكية أفضل من ذلك ولا تعديل أكمل منه.
قال ابن عبد البر: وقد كفينا البحث عن أحوال الصحابة رضي الله عنهم؛ لإجماع أهل الحق من المسلمين وهم أهل السنة والجماعة على أنهم كلهم عدول، فرضي الله عن كل الصحابة أجمعين.