أغنياءُ الصحابة
إنَّ الإسلام منهجٌ متكامل لحياة البشر، يضمن لمن التزم أوامره واجتنب نواهيه سعادة
الدنيا والآخرة؛ ذلك لأنه لا يقتصر على مجرد العقيدة والهداية الروحية، وإنما هو
نظام شامل للحياة في كافة جوانبها الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية، وغيرها؛ فهو
ينظم للناس أمور دينهم ودنياهم، ويقيم توازنًا دقيقًا بين الحياة الدنيا والحياة
الآخرة، كما أنه يقيم توازنًا بين حاجات الإنسان المادية والروحية، وبين حقوق
الأفراد وواجباتهم تجاه بعضهم بعضًا، وبين المصالح الفردية، والمصالح الجماعية.
وقد اهتم الإسلام بالمال اهتمامًا كبيرًا؛ بوصفه عصب الحياة، وقوام المجتمع، بما
يجعل المال أداةً إيجابيةً في خدمة البشرية دون غلوٍ أو طغيان.
ولقد جعل الله المال زينة الحياة الدنيا حيث قال سبحانه: {الْمَالُ
وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:
46]، وقال تعالى: {زُيِّنَ
لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ
الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ
وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [آل
عمران: 14]، وندد القرآن بمن يحرمون على أنفسهم ما أحل الله لهم من طيبات هذه
الدنيا قال جل وعلا: {قُلْ
مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ
الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً
يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف:
32].
من هذه الآيات القرآنية وغيرها يتبين لنا أن الإسلام لم يقف حائلًا بين أتباعه وبين
امتلاك المال؛ طالما أن هذا المال جمع من حلال، والقصد من جمعه هو الاستعانة به على
طاعة الله والتصدي لنوائب الدهر وشدائد الأيام، إذ أن الفقر يحول بين الإنسان وبين
قيامه بواجبه تجاه ربه وتجاه الناس، لذا نجد من دعاء رسولنا صَلَّى الله عليه وسلم
الذي كان يتمثله صباح مساء:
"اللهم
إني أعوذ بك من الكفر والفقر، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر
الرجال".
وكان
من دعائه صَلَّى الله عليه وسلم: "اللهم
إني أعوذ بك من المأثم والمغرم" ولما
سُئل عن ذلك قال: "إن
الرجل إذا غرم حدث فكذب، ووعد فأخلف" فانظر
إلى آثار الفقر، وما يجلبه على صاحبه من صفات النفاق كالكذب، وإخلاف الوعد؛ ولو لم
يكن للفقر من آثار سيئة إلا هاتان الصفتان لكفتا.
ومما روي من الأحاديث النبوية، والآثار المروية عن صحابة النبي صَلَّى الله عليه
وسلم، والتابعين لهم بإحسان؛ يتبين لنا أنهم كانوا لا يرفضون المال بل سعوا
لامتلاكه ليستعينوا به على تحقيق خيري الدنيا والآخرة.
روى عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم:"نعم
المال الصالح للمرء الصالح".
وعن عبد الله بن خبيب، عن عمه، قال: قال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "لا
بأس بالغنى لمن اتقى الله عز وجل، والصحة لمن اتقى الله عز وجل خير من الغنى، وطيب
النفس من النعم".
وحدث
بكير بن بكير الغفاري، عن أبيه، عن رجل منهم يقال له: فضلة قال: خرج عمر وبين يديه
رجل يخطر وهو يقول: "أين بطحاء مكة كديا فعلاها فوقف عليه ثم قال: إن يكن لك خير
فلك كرم، وإن يكن لك خلق فلك مروءة، وإن يكن لك مال فلك شرف وإلا فأنت والحمر
سواء".
وعن عبد الله بن العيزار قال: قال عبد الله بن عمر: "احرث لدنياك كأنك تعيش أبدًا،
واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا".
وعن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "ليس
خيركم من ترك دنياه لآخرته، ولا من ترك آخرته لدنياه، حتى ينال منها، فإن كل واحدة
منهما مبلغة إلى الأخرى، ولا تكن كلًا على الناس".
وروى الحسن أن قيس بن عاصم المنقري قال لبنيه: "إياكم والمسألة؛ فإنها آخر كسب
المرء، إن امرأ لم يسأل الناس إلا تركه كسبه، وعليكم بالمال فاستصلحوه؛ فإنه منبهة
للكريم، ويستغنى به عن اللئيم".
وروى يحيى بن أبي كثير قال: كانت لرسول الله صَلَّى الله عليه وسلم من سعد بن عبادة
جفنة من ثريد في كل يوم تدور معه أينما دار من نسائه، وكان إذا انصرف من صلاة
مكتوبة قال: "اللهم ارزقني مالًا أستعين به على فعال؛ فإنه لا فعال إلا بالمال".
والجفان:
جمع جفنة وهي القصعة أو البئر الصغيرة، والثريد: الطعام الذي يصنع بخلط اللحم
والخبز المفتت مع المرق وأحيانا يكون من غير اللحم.
وروى هشام بن عروة، عن أبيه، أن سعد بن عبادة، كان يدعو: "اللهم هب لي حمدًا، وهب
لي مجدًا، لا مجد إلا بفعال، ولا فعال إلا بمال، اللهم لا تصلحني بالقليل، ولا أصلح
عليه". وروى يحيى بن سعيد قال: سمعت سعيد بن المسيب يقول: "لا خير فيمن لا يريد جمع
المال من حله، يكف به وجهه عن الناس، ويصل به رحمه، ويعطي منه حقه".
وروى
شيخ من قريش قال: قال سعيد بن المسيب: "ينبغي للعاقل أن يحب حفظ المال في غير
إمساك، فإنه من المروءة، يكف به وجهه، ويكرم نفسه، ويصل منه رحمه". وروى جعفر
ورياح، وعبيد الله بن شميط، قالوا: سمعنا شميطًا يقول: "كان عابد في بني إسرائيل
يقول: "اللهم أعني على ديني بدنيا، وعلى آخرتي بتقوى".
وروى محمد بن المنكدر قال: "نعم العون على الدين الغنى".
وروى سفيان الثوري قال: كان من دعائهم ــ يعني: الصحابة: "اللهم زهدنا في الدنيا،
ووسع علينا منها، ولا تزوها عنا فترغبنا فيها".
وروى القاسم بن محمد قال: لما كان زمن عمر فكثر المال، وحدثت الأعطية، وكف الناس عن
طلب المعيشة،قال عمر: "أيها الناس أصلحوا معايشكم؛ فإن فيها صلاحا لكم وصلة
لغيركم".
وروى العلاء بن زياد قال: قال عمر: "عليكم بالجمال واستصلاح المال، وإياكم وقول
أحدكم ما أبالي".
وروى ابن أبزى قال: قال داود عليه السلام: "نعم العون اليسار أو الغنى على الدين".
وروى يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، أنه ترك دنانير كثيرة، فلما حضرته الوفاة
قال: "اللهم إنك تعلم أني لم أجمعها إلا لأصون بها ديني، وأصل بها رحمي، وأكف بها
وجهي، وأقضي بها ديني، لا خير فيمن لا يجمع المال ليكف به وجهه، ويصل به رحمه،
ويقضي به دَينه، ويصون به دِينه".
وقال خالد بن صفوان: "خصلتان إذا حفظتهما لا تبالي ما صنعت بعدهما: دينك لمعادك،
ودرهمك لمعاشك".
وقال أبو صالح الأسدي: "وجدت خير الدنيا والآخرة في التقى والغنى، وشر الدنيا
والآخرة في الفقر والفجور".
وقال سفيان الثوري: "المال في هذا الزمان سلاح المؤمن".
وروى معاوية بن عبد الله قال: سمعت كعبًا يقول: "أول من ضرب الدنانير والدراهم آدم،
ضرب وقال: لا تصلح المعيشة إلا بهما".
وقال المقدام بن معدي كرب: "يأتي على الناس زمان لا ينفع فيه إلا الدينار والدرهم".
وقيل لبعض الحكماء: العلماء أفضل أم الأغنياء؟ فقال: العلماء، فقيل له: "فما بال
العلماء بأبواب الأغنياء أكثر من الأغنياء بأبواب العلماء؟ قال: لمعرفة العلماء
بفضل الأغنياء، وجهل الأغنياء بفضل العلم".
وروى ابن أبي عتبة قال: اشترى سلمان وسقا من طعام، فقيل له: تشتري وسقا من طعام؟
فقال: "إن النفس إذا أحرزت قوتها اطمأنت".
والوسق: مكيال مقداره ستون صاعًا، والصاع: أربعة أمداد، والمُدُّ: مقدار ما يملأ
الكفين.
وروى طلحة بن يحيى، عن عمته سعدى بنت عوف قالت: دخل طلحة بن عبيد الله على بعض
أزواجه وهو حزين،فقالت له: ما الذي أحزنك؟ قال: اجتمع عندي مال، قالت: فأرسل إلى
قومك فاقسمه بينهم، فأرسل إلى قومه فقسمه فيهم،فسألت الخازن: كم قسم يومئذ؟ قال:
أربعمائة ألف.
وقال عبد الرحمن بن عوف: "يا حبذا المال، أصل منه رحمي، وأتقرب إلى ربي عز وجل".
وروى عروة بن الزبير قال: قال الزبير: "إن المال فيه صنائع المعروف، وصلة الرحم،
والنفقة في سبيل الله عز وجل، وعون على حسن الخلق، وفيه مع ذلك شرف الدنيا ولذتها".
وقال عباس بن مطرف الكلاعي: "لا حياة لمن لا إخوان له، ولا إخوان لمن لا مال له".
وقال عبد الرحمن بن عوف: "أتاني رجل بخمسين ألف دينار، فقال: هذا استودعنيها أبوك
في الجاهلية".
وروى أبو هريرة قال: كان رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم يقول: "اللهم
أصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي إليها منقلبي".
وقال الأشعث بن قيس لبنيه: "يا بني أصلحوا المال، لجفوة السلطان، وشؤم الزمان".
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "يا معشر القراء، ارفعوا رءوسكم فقد وضح الطريق،
فاستبقوا الخيرات، ولا تكونوا عيالا على المسلمين".
وكان سعيد بن المسيب يقول: "من لزم المسجد، وترك الحرفة، وقبل ما يأتيه، فقد ألحف
في السؤال".
وروى الهيثم بن جميل قال: قلت لابن المبارك: أتجر في البحر؟ قال: "اتجر في البر
والبحر، واستغن عن الناس".
وروى سليمان بن موسى، أن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم قال: "من
طلب كسبا من حلال، لينفقه على ولده وأهله، أتاه الله عز وجل ووجهه كالقمر ليلة
البدر".
وروى أسلم، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه تزوج أم كلثوم بنت علي رضي الله عنه على
أربعين ألفا.
وروى عبد الرحمن بن أبي ليلى أن عبد الرحمن بن عوف تزوج امرأة من الأنصار على
ثلاثين ألفا. وروى نافع: أن ابن عمر، أمر لصفية بعشرة آلاف.
وروى ثابت البناني: أن أنس بن مالك: تزوج امرأة على أربعة آلاف درهم.
وروى إسماعيل بن سالم أن الشعبي زوج ابنته على عشرة آلاف، وكان يزوج الابنة من
بناته على عشرة آلاف.
وروى ابن إسحاق، عن أبيه قال: دخلتُ على عائشة بنت طلحة، وكانت لا تحتجب من الرجال،
تجلس وتأذن كما يأذن الرجل، فلقد رأيتني دخلت عليها وهي منكبة، ولو أن بعيرًا أنيخ
وراءها رئي، قال ابن إسحاق: فتزوجها مصعب بن الزبير على مائة ألف دينار، ثم تزوجها
ابن عم لها عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي فأصدقها مائة ألف دينار.
ما وردَ في ذم الفقر:
روى أنس بن مالك قال: قال النبي صَلَّى الله عليه وسلم: "كاد
الحسد يغلب القدر، وكاد الفقر يكون كفرًا".
وروى مسلم بن يسار قال: كان النبي صَلَّى الله عليه وسلم يقول: "اللهم
جاعل الليل سكنًا، والشمس والقمر حسبانًا، اقض عني الدَّين، وأغنني من الفقر،
وأمتعني بسمعي، وبصري، وتوفني في سبيلك".
وروى الحسن أن النبي صَلَّى الله عليه وسلم قال: "أربع
من قواصم الظهر: إمامٌ تطيعه ويضلك، وزوجةٌ تأمنها وتخونك، وجارٌ إن علم خيرًا ستره
وإن علم شرًا نشره، وفقرٌ حاضر لا يجد صاحبه عنه متلددًا".
وروى عبد الرحمن بن أبزى قال: قال داود النبي صَلَّى الله عليه وسلم: "ما أقبح
الفقر بعد الغنى، وأقبح من ذلك الضلال بعد الهدى، واستعذ من صاحب إن ذكرت لم يعنك،
وإن نسيت لم يذكرك".
وروى الحسن قال: قال لقمان لابنه: "يا بني، ذقت المرار كله، فلم أذق شيئا أمر من
الفقر".
وروى ميمون بن مهران قال: قال ابن عباس: "جهد البلاء أن تحتاجوا إلى ما في أيدي
الناس فيمنعوكم".
وأمر سليمان بن عبد الملك برجل من الروم، فضربت عنقه، فقال رجل عنده: أعوذ بالله من
جهد البلاء، فقال: جهد البلاء؟ إن جهد البلاء عندكم ضرب الأعناق؟ قال: إنا نقول
ذلك، قال: "إن جهد البلاء: الفقر بعد الغنى".
وروى مسلم بن يسار قال: كان النبي صَلَّى الله عليه وسلم يقول: "اللهم
جاعل الليل سكنا، والشمس والقمر حسبانا، اقض عني الدين، وأغنني من الفقر، وأمتعني
بسمعي، وبصري، وتوفني في سبيلك".
وروى كعب قال: قال لقمان لابنه: "يا بني، إذا افتقرت فافزع إلى ربك عز وجل وحده
فادعه وتضرع إليه، واسأله من فضله وخزائنه؛ فإنه لا يملكه غيره، ولا تسأل الناس
فتهون عليهم، ولا يردوا عليك شيئا".
وممن أشتهر من الصحابة بكثرة المال والإنفاق في سبيل الله:
أولًا: أبو بكر الصديق:
روى هشام، عن أبيه: أسلم أبو بكر وله أربعون ألفًا فأنفقها في سبيل الله، وأعتق
سبعةً كلهم يعذّب في الله: أعتق بلالًا، وعامر بن فُهيرة، وزنيرة، والنهدية،
وابنتها، وجارية بني المؤمل، وأم عُبَيس.
وروى أسامة بن زيد بن أسلم، عن أبيه: كان أبو بكر معروفًا بالتجارة، ولقد بُعث
النبيُّ صَلَّى الله عليه وسلم وعنده أربعون ألفًا فكان يعتق منها ويَعُول المسلمين
حتى قدم المدينة بخمسة آلاف، وكان يفعل فيها كذلك.
وروى أَبو هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "مَا
نَفَعَنِي مَالٌ قَطُّ، مَا نَفَعَنِي مَالُ أَبِي بَكْرٍ".
فبكى أَبو بكر وقال: وهل أَنا ومالي إِلا لَكَ يا رسول الله؟ .
وروى الشعبي قال: لما نزلت: {إِن
تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ} [البقرة:
271]، قال: جاءَ عمر بنصف ماله يحمله إِلى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم على
رؤوس النـاس، وجاءَ أَبو بكر بماله أَجمع يكاد يخفيه من نفسه، فقال رسول الله
صَلَّى الله عليه وسلم: "مَا
تَرَكْتَ لِأَهْلِكَ؟" قَالَ:
عِدَةُ الله وَعِدَةُ رَسُولِهِ"، قال: يقول عمر لأَبي بكر: بنفسي أَنت وبأَهلي
أَنتَ، ما استبقنا باب خير قَطُّ إِلا سبقتنا إِليه .
وفي رواية: عن عمر قال: أَمرنا رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم أَن نتصدق، ووافق
ذلك مالًا عندي، فقلت، اليوم أَسْبق أَبا بكر إِن سَبَقْته، فجئت بنصف مالي، فقال
ــ يعني: النَّبي صَلَّى الله عليه وسلم: "ما
أَبقيت لأَهلك؟" قلت:
مِثْله، وجاءَ أَبو بكر بكلِّ ما عنده، فقال النَّبي صَلَّى الله عليه وسلم: "يا
أَبا بكر، ما أَبقيت لأَهلك؟" قال:
أَبقيت لهم الله ورسوله، قال عمر: لا أَسبقه إِلى شيء أَبدًا.
ثانيًا: عثمان بن عفان:
قال فيه ابن مسعود رضي الله عنه: "وكان من الذين آمنوا ثم اتَّقوا وأحسنوا والله
يحبُّ المحسنين"، واشترى عُثمان رضي الله عنه بئر رُومة، وكانت رَكِيَّة ليهوديّ
يبيع المسلمين ماءَها، فقال رسولُ الله صَلَّى الله عليه وسلم: "مَنْ
يَشْتَرِي رُومَةَ فَيَجْعَلَهَا لِلْمُسْلِمينَ يَضْرِبُ بِدَلْوِهِ فِي
دِلَائِهِمْ، وَلَهُ بِهَا مَشْرَبٌ فِي الْجَنَّةِ" ،
فأتى عثمانُ اليهوديَّ فساومه بها، فأبى أن يبيعها كلَّها، فاشترى نصفَها باثني عشر
ألف درهم، فجعله للمسلمين،
فقال
له عثمان رضي الله عنه: إن شئْتَ جعلت على نصيبي قرنين، وإن شئت فلي يوم ولك
يوم، قال: بل لك يوم ولي يوم، فكان إذا كان يوم عثمان استقى المسلمون ما
يكفيهم يومين؛ فلما رأى ذلك اليهوديّ قال: أفسدتَ عليّ رَكِيَّتي، فاشتر النّصف
الآخر، فاشتراه بثمانية آلاف درهم ،
وقال: رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "مَنْ
يَزِيدُ فِي مَسْجِدِنَا"؛
فاشترى عُثمان رضي الله عنه موضع خمس سَوَارِ، فزاده في المَسجد ، وجَهَّزَ جيشَ
العُسْرَة بتسعمائة وخمسين بعيرًا، وأتمّ الألف بخمسين فرسًا، وجيشُ العُسْرَة كان
في غَزْوَةِ تَبُوك، وروى قتادة، قال: حَمل عثمان في جيش العُسرَةِ على ألف بعير
وسبعين فرسًا.
ثالثًا: عبد الرحمن بن عوف:
رُوِيَ عن السائب في قوله تعالى: {الَّذِينَ
يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا
أَنفَقُوا} [البقرة:
262].
نزلت في عثمان، وعبد الرحمن بن عوف؛ فأما عثمان فقد تقدم ذكره، وأما عبد الرحمن
فجاء النبي صَلَّى الله عليه وسلم بأربعة آلاف درهم صدقة وقال: كان عندي ثمانية
آلاف، فأمسكت أربعة آلاف لنفسي وعيالي وأربعة آلاف أقرضها ربي عز وجل، فقال صَلَّى
الله عليه وسلم: "بارك
الله لك فيما أمسكت وفيما أعطيت"،
ونزلت الآية.
وروى أنس رضي الله عنه قال: بينما عائشة في بيتها إذ سمعت رجة في المدينة فقالت: ما
هذا؟ قالوا: عيرٌ لعبد الرحمن بن عوف من الشام تحمل من كل شيء وكانت سبعمائة بعير،
فارتجت المدينة من الصوت؛ فقالت عائشة: سمعت رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم
يقول: "رأيت
عبد الرحمن يدخل الجنة حَبْوًا"،
فبلغ ذلك عبد الرحمن فقال: إن استطعت لأدخلها قائما.
فجعلها بأقتابها وأحمالها في سبيل الله عز وجل.
وفي رواية أنه لما بلغه قول عائشة أتاها فسألها عما بلغه، فحدثته؛ فقال: إني أُشهدك
أنها بأحمالها وأقتابها وأحلاسها في سبيل الله عز وجل.
وروي ابن عباس رضي الله عنه قال: وردت قافلة من تجار الشام لعبد الرحمن بن عوف
فحملها إلى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فدعا له النبي صَلَّى الله عليه وسلم
بالجنة، فنزل جبريل وقال: "إن الله يقرئك السلام ويقول: أقرئ عبد الرحمن السلام
وبشره بالجنة".
وروى عمر بن الخطاب قال: رأيت النبي صَلَّى الله عليه وسلم في منزل فاطمة والحسن
والحسين يبكيان جوعا ويتضوران، فقال النبي صَلَّى الله عليه وسلم: "من
يصلنا بشيء؟" فطلع
عبد الرحمن بن عوف بصحفة فيها حيس ورغيفان بينهما إهالة، فقال النبي صَلَّى الله
عليه وسلم: "كفاك
الله أمر دنياك، وأما آخرتك فأنا لها ضامن".
وروي عن أنس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم يقول لعبد
الرحمن بن عوف: "بارك
الله في مالك وخفف عليك حسابك يوم القيامة".
وروي أنه صَلَّى الله عليه وسلم قال: "سقى
الله ابن عوف من سلسبيل الجنة".
وروي أبو سلمة بن عبد الرحمن، عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صَلَّى الله عليه
وسلم كان يقول: "إن
أمركنَّ لَمِمَّا يهمني بعدي، ولن يصبر عليكن إلا الصابرون"،
ثم تقول عائشة: سقى الله أباك من سلسبيل الجنة ــ تريد عبد الرحمن بن عوف؛ وقد كان
وصل أزواج النبي صَلَّى الله عليه وسلم بما بيع بأربعين ألفًا،
وروي عنه أن عبد الرحمن أوصى بحديقة لأمهات المؤمنين بيعت بأربعمائة ألف.
وروى المسور بن مخرمة قال: باع عبد الرحمن بن عوف أرضًا من عثمان بأربعين ألف
دينار، فقسم ذلك المال في بني زهرة، وفقراء المسلمين، وأمهات المؤمنين، وبعث إلى
عائشة معي من ذلك المال، فقالت عائشة: سقى الله ابن عوف سلسبيل الجنة.
وروي
الزهري قال: تصدق عبد الرحمن بن عوف على عهد رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم بشطر
ماله أربعة آلاف ثم تصدق بألف دينار، ثم حمل على خمسمائة فرس في سبيل عز وجل، ثم
حمل على ألف وخمسمائة راحلة في سبيل الله؛ وكان عامة ماله من التجارة.
وعن ابن عباس قال؛ تصدق بشطر ماله أربعة آلاف درهم ثم بأربعين ألف درهم ثم بأربعين
ألف دينار ثم خمسمائة فرس في سبيل الله.
وروي طلحة بن عبد الرحمن بن عوف قال: كان أهل المدينة عيالًا على عبد الرحمن بن
عوف، ثلث يقرضهم ماله، وثلث يقضي دينهم بماله، وثلث يصلهم.
وروي عن عروة بن الزبير أنه قال: أوصى عبد الرحمن بن عوف بخمسين ألف دينار في سبيل
الله تعالى.
وروى محمد أن عبد الرحمن بن عوف توفي وكان فيما خلفه ذهب قطع بالفئوس حتى مجلت أيدي
الرجال منه، وترك أربع نسوة فأصاب كل امرأة ثمانون ألفا. وقال أبو عمر: كان تاجرًا
مجدودًا في التجارة، فكسب مالا كثيرًا وخلف ألف بعير وثلاثة آلاف شاة ومائة فرس
ترعى بالبقيع، وكان يزرع بالجرف على عشرين ناضحًا، فكان يدخل من ذلك قوت أهله سنة.
وروي صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن قال: صالحنا امرأة عبد الرحمن التي طلقها في
مرضه من ثلث الثمن بثلاثة وثمانين ألفا وفي رواية من ربع الثمن.
وقال الطائي: قسم ميراثه على ستة عشر سهما فبلغ نصيب كل امرأة ثمانين ألف درهم.
رابعًا: طلحة بن عبيد الله:
قال محمد بن إبراهيم بن الحارث: مر رسولُ الله صَلَّى الله عليه وسلم في غزوة ذي
قَرَد على ماءٍ يقال له: بَيْسان مالح، فقال: هو نَعْمَان، وهو طيب، فغيَّر اسْمَه
فاشتراه طلحة ثم تصدّق به؛ فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "مَا
أنْتَ يا طَلُحة إلا فَيَّاضٌ"
.
فبذلك قيل له: طلحة الفياض.
وروى موسى بن طلحة، عن أَبيه طلحة، قال: سماني رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم يوم
أَحد: طلحة الخَيْرِ، ويوم العُسْرة: طلحة الفَيَّاض، ويوم حنين: طلحة الجُود.
وقال سفيان بن عُيينة: كانت غلّة طلحة بن عُبيد الله ألفًا وافيًا.
وروى الحسن أنّ طلحة بن عُبيد الله باع أرضًا له من عثمان بن عفّان بسبعمائة ألف،
فحملها إليه، فلمّا جاء بها قال: إنّ رجلًا تبيتُ هذه عنده في بيته لا يدري ما
يَطْرُقُه من أمر الله لَغَريِر بالله، فبات ورُسُلُه مختلف بها في سِكَكِ المدينة
حتّى أسْحَرَ وما عنده منها درهم.
وقال
قَبيصة بن جابر: ما رأيت أحدًا أعطى لِجزيل مالٍ من غير مسألة من طلحة بن عُبيد
الله.
وقال ابن أبي حازم: سمعتُ طلحة بن عُبيد الله يقول ــ وكان يُعَدّ من حُلماء قريش:
إنّ أقلّ العيب على الرجل جلوسُه في داره.
وقال موسى بن محمّد بن إبراهيم عن أبيه قال: كان طلحة بن عُبيد الله يُغِلّ بالعراق
ما بين أربعمائة ألفٍ إلى خمسمائة ألف، ويُغِلّ بالسراة عشرة آلاف دينار أو أقلّ أو
أكثر، وبالأعراض له غلاّتٌ، وكان لا يدَعُ أحدًا من بني تَيْم عائلًا إلاّ كفاه
مؤونته ومؤونة عياله وزوّج إيماءهم وأخْدَمَ عائلهم وقضى دين غارمهم، ولقد كان
يُرسل إلى عائشة إذا جاءت غلّته كلّ سنة بعشرة آلاف، ولقد قضى عن صُبيحة التيميّ
ثلاثين ألف درهم.
وقال
السائب بن يزيد: صَحِبْتُ طلحة بن عُبيد الله في السفر والحضر فلم أَخْبُرْ أحدًا
أعَمّ سخاءً على الدّرهم والثوب والطعام من طلحة.
وقال موسى بن طلحة أنّ معاوية سأله: كم ترك أبو محمّد، يرحمه الله، من العين؟ قال:
ترك ألفي ألف درهم ومائتي ألف درهم ومائتي ألف دينار، وكان ماله قد اغتيل كان
يُغِلّ كلّ سنة من العراق مائة ألف سوى غلاّته من السراة وغيرها، ولقد كان يُدْخِلُ
قُوتَ أهله بالمدينة سَنَتَهم من مزرعة بقناة كان يَزْرَعُ على عشرين ناضحًا وأوّلُ
من زرع القمح بقناة هو، فقال معاوية: عاش حميدًا سخيًّا شريفًا وقُتل فقيرًا ــ
رحمه الله. وقال عمرو بن العاص: حُدّثتُ أنّ طلحة بن عُبيد الله ترك مائة بُهار؛ في
كلّ بهار ثلاث قناطر ذهب، وسمعتُ أنّ البُهار جِلْدُ ثور.
خامسًا: عبد الله بن عمر:
كان عبد الله بن عمر كثير الصدقة، وربما تصدق في المجلس الواحد بثلاثين أَلفًا.
وروى نافع قال: أُتيَ ابنُ عمر ببضعةٍ وعشرين ألفًا فما قام من مجلسه حتى أعطاها،
وزاد عليها، قال: لم يزل يُعْطي حتى أنفذ ما كان عنده فجاءه بعض من كان يُعْطيه؛
فاستقرض من بعض مَن كان أعطاه فأعطاه. وقال ميمون: وكان يقول له القائلُ: بخيل،
وكذبوا والله ما كان ببخيل فيما ينفعه.
وروى نافع أنّ ابن عمر كان لا يكاد يتعشّى وحده.
وروى نافع أيضًا أنّ ابن عمر قال: إني أشتهي حوتًا قال: فشَوَوْها ووضعوها بين يديه
فجاء سائل، قال: فأُمر بها فدُفِعَتْ إليه.
وروى ميمون بن مِهْران أنّ امرأة ابن عمر عوتِبَتْ فيه فقيل لها: ما تَلْطُفينَ
بهذا الشيخ؟ قالت: وما أصنع به؟ لا يُصْنَعُ له طعامٌ إلاّ دعا عليه من يأكله،
فأرسلت إلى قومٍ من المساكين كانوا يجلسون بطريقه إذا خرج من المسجد فأطعمَتْهم
وقالت: لا تجلسوا بطريقه، ثمّ جاء إلى بيته فقال: أرْسِلوا إلى فلان، وإلى فلان،
وكانت امرأته قد أرسلت إليهم بطعام وقالت: إن دعاكم فلا تأتوه، فقال: أرَدْتُمْ أن
لا أتعشّى الليلةَ، فلم يَتَعَشّ تلك الليلة.
وروى نافع أنّ عبد الله بن عمر كان إذا اشتدّ عَجَبُه بشيء من ماله قرّبه لربّه،
قال: فلقد رأيتُنا ذات عشيّة وكنّا حُجّاجًا، وراح على نجيب له قد أخذه بمالٍ فلمّا
أعجبَتْه رَوْحَتُه وسرّه أَنَاخَته، ثُمّ نزل عنه ثمّ قال: يا نافع، انْزعوا
زِمامَه ورَحْلَه وجلّلوه وأشْعِروه وأدخلوه في البُدْن.
سادسًا: سعد بن عبادة:
روى ابن سيرين قال: كان أهل الصُفَّة إذا أمسوا انطلق الرجل بالواحد، والرجل
بالاثنين، والرجل بالجماعة، فأما سعد فكان ينطلق بثمانين.
وروى الدارقطني في كتاب "الأسخياء"، من طريق هشام بن عروة، عن أبيه قال: كان منادي
سعد ينادي على أطمة؛ من كان يريد شحمًا ولحمًا، فليأت سعدًا، وكان سعد يقول: "اللهم
هب لي مجدًا، لا مجد إلا بفعال، ولا فعال إلا بمال، اللهم إنه لا يصلحنى القليل،
ولا أصلح عليه.
سابعًا: أم المؤمنين زينب بنت جحش:
روت بَرزة بنت رافع قالت: لمّا خرج العطاء أرسل عمر إلى زينب بنت جَحْش بالذي لها،
فلمّا أُدخل عليها قالت: غَفَرَ الله لعمر، غيري من أخواتي كان أقوى على قسم هذا
مني، قالوا: هذا كلّه لك، قالت: سبحان الله! واستترتُ منه بثوب وقالت: صُبّوه
واطرحوا عليه ثوبًا، ثمّ قالت لي: أدخلي يدك فاقبضي منه قبضة فاذهبي بها إلى بني
فلان، وبني فلان، من أهل رَحِمها وأيتامها، حتى بقيت بقيّة تحت الثوب، فقالت لها
برزة بنت رافع: غَفَرَ الله لكِ يا أمّ المؤمنين! والله لقد كان لنا في هذا حقّ،
فقالت: فلكم ما تحت الثوب، فوجدنا تحته خمسةً وثمانين درهًما، ثمّ رفعت يدها إلى
السماء فقالت: اللهمّ لا يدركني عَطاء لعمر بعد عامي هذا، فماتت.
وروى محمّد بن كعب قال: كان عطاء زينب بنت جحش اثني عشر ألف درهم، ولم تأخذه إلاّ
عامًا واحدًا، حُمل إليها اثنا عشر ألف درهم فجعلت تقول: "اللهمّ لا يدركني قابل
هذا المال؛ فإنّه فتنة"، ثمّ قسمته في أهل رَحِمِها، وفي أهل الحاجة حتى أتت عليه،
فبلغ عمر فقال: هذه امرأة يُراد بها خير، فوقفَ على بابها، وأرسل بالسلام، وقال: قد
بلغني ما فرّقت، فأرسل إليها بألف درهم يستنفقها، فسلكت بها طريق ذلك المال.