حكمُ سبِّ الصحابي:
جاء في "شرح العقيدة الطحاوية" لابن أبي العز الحنفي: مَنْ أضلُّ ممن يكون في قلبه
غِلٌ على خِيار المؤمنين، وسادات أولياء الله تعالى بعد النبيين؟ بل قد فضَلَهم
اليهود، والنصارى بخصلة؛ قيل لليهود: من خير أهل ملتكم؟ قالوا: أصحاب موسى، وقيل
للنصارى: من خير أهل ملتكم؟ قالوا: أصحاب عيسى، وقيل للرافضة: من شر أهل ملتكم؟
قالوا: أصحاب محمد!! ولم يستثنوا منهم إلا القليل، وفيمن سبوهم من هو خير ممن
استثنوهم بأضعاف مضاعفة.
وكفى فخرا لأصحاب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم أن الله تبارك وتعالى شهد لهم
بأنهم خير الناس حيث قال الله تعالى: {كُنتُمْ
خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل
عمران: 110]؛ فإنهم أول داخل في هذا الخطاب، كذلك شهد لهم رسول الله صَلَّى الله
عليه وسلم بقوله في الحديث المتفق على صحته: "خَيْرُ
الْقُرُونِ قَرْنِي"،
ولا مقام أعظم من مقام قوم ارتضاهم الله عز وجل لصحبة نبيه ونصرته، قال تعالى: {مُّحَمَّدٌ
رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ
بَيْنَهُمْ} [الفتح:
29]، وقال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ
الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم
بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ
تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ
الْعَظِيمُ} [التوبة:
100]، فتأمل ذلك فإنك تنجو من قبيح ما اختلقته الرافضة عليهم مما هم بريئون منه،
كما سيأتي بسط ذلك وإيضاحه، فالحذر الحذر من اعتقاد أدنى شائبة من شوائب النقص
فيهم، معاذ الله لم يختر الله لأكمل أنبيائه إلا أكمل من عداهم من بقية الأمم، كما
أعلمنا ذلك بقوله تعالى: {كُنتُمْ
خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}.
ومما يرشدك إلى أن ما نسبوه إليهم كذب مختلق عليهم: أنهم لم ينقلوا شيئا منه بإسناد
عُرِفت رجاله، ولا عُدِّلت نقلته، وإنما هو شيءٌ من إفكهم، وحمقهم، وجهلهم،
وافترائهم على الله سبحانه وتعالى، فإياك أن تدع الصحيح وتتبع السقيم ميلًا إلى
الهوى والعصبية، وسيُتلى عليك عن علي كرم الله وجهه، وعن أكابر أهل بيته من تعظيم
الصحابة سيما الشيخان وعثمان وبقية العشرة المبشرين بالجنة ما فيه مقنع لمن أُلهم
رشده.
وكيف يسوغ لمن هو من العِتْرَة النبوية، أو من المتمسكين بحبلهم أن يعدل عما تواتر
عن الإمام علي رضي الله عنه، من قوله: إن خير هذه الأمة بعد نبيها: أبو بكر، ثم
عمر. وزعم الرافضة لعنهم الله أن ذلك تُقْيَة، وسيتكرر عليك رده وبيان بطلانه، وأن
ذلك أدى بعض الرافضة إلى أن كفَّر عليًا؛ قال: لأنه أعان الكفار على كفرهم. فقاتلهم
الله ما أحمقهم وأجهلهم، ونحن نرتب الكلام في فصلين أحدهما: في سبهم مطلقا،
والثاني: في تفصيل أحكام السابّ.
أما الأول: فسب أصحاب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم حرام بالكتاب والسنة:
تحريم سب الصحابة من القرآن:
يقول الله تعالى: {وَلَا
يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا} [الحجرات:
12] وأدنى أحوال السابّ لهم أن يكون مغتابًا، وقال تعالى: {وَيْلٌ
لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ} [الهمزة:
1]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ
يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ
احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} [الأحزاب:
58]، وهم صدور المؤمنين؛ فإنهم هم المواجهون بالخطاب في قوله تعالى: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا} [البقرة:
104] حيث ذُكِرت، ولم يكتسبوا ما يوجب أذاهم؛ لأن الله سبحانه رضي عنهم رضًا مطلقًا
بقوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ
الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم
بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة:
100]، فرضي عن السابقين من غير اشتراط إحسان، ولم يرض عن التابعين إلا أن يتبعوهم
بإحسان، وقال تعالى: {لَّقَدْ
رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح:
18]، والرضا من الله صفة قديمة، فلا يرضى إلا عن عبد علم أنه يوافيه على موجبات
الرضا، ومن رضي الله عنه لم يسخط عليه أبدًا، وقوله تعالى: {إِذْ
يُبَايِعُونَكَ} -
سواءً كانت الجملة ظرفا محضًا، أو كانت ظرفا فيها معنى التعليل - فإن ذلك لتعلق
الرضا بهم فإنه يسمى رضًا أيضًا، كما في تعلق العلم والمشيئة والقدرة وغير ذلك من
صفات الله سبحانه، وقيل: بل الظرف يتعلق بجنس الرضا، وأنه يرضى عن المؤمن بعد أن
يطيعه، ويسخط عن الكافر بعد أن يعصيه، ويحب من اتبع الرسول بعد اتباعه له، وكذلك
أمثال هذا، وهذا قول جمهور السلف، وأهل الحديث، وكثير من أهل الكلام وهو الأظهر.
وعلى هذا فقد بين في مواضع أُخَر أن هؤلاء الذين رضي الله عنهم هم من أهل الثواب في
الآخرة، يموتون على الإيمان الذي به يستحقون ذلك كما في قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ
الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم
بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة:
100]، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صَلَّى الله عليه وسلم أنه قال: "لا
يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة"،
وأيضا فكل من أخبر الله عنه أنه رضي الله عنه فإنه من أهل الجنة؛ وإن كان رضاه عنه
بعد إيمانه وعمله الصالح، فإنه يذكر ذلك في معرض الثناء عليه والمدح له، فلو علم
أنه يتعقب ذلك بما يسخط الرب لم يكن من أهل ذلك، وهذا كما في قوله تعالى: {يَا
أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ. ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً
مَّرْضِيَّةً. فَادْخُلِي فِي عِبَادِي. وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:
27 ــ 30]، ولأنه سبحانه وتعالى قال: {لَقَدْ
تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ الَّذِينَ
اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ
مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة:
117]، وقال سبحانه وتعالى: {وَاصْبِرْ
نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ
وَجْهَهُ} [الكهف:
28]، وقال تعالى: {مُحَمَّدٌ
رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ
بَيْنَهُمْ} [الفتح:
29]، وقال تعالى: {كُنتُمْ
خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل
عمران: 110] وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ
جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:
134]، وهم أول من وُوْجه بهذا الخطاب فهم مرادون بلا ريب.
وقال سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ
جَاءُو مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا
الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا
لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [الحشر:
10] فجعل سبحانه ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى للمهاجرين والأنصار، والذين
جاؤوا من بعدهم مستغفرين للسابقين، وداعين الله أن لا يجعل في قلوبهم غلا لهم؛
فعُلِم أن الاستغفار لهم، وطهارة القلب من الغل لهم أمر يحبه الله ويرضاه ويثني على
فاعله، كما أنه قد أمر بذلك رسوله في قوله تعالى: {فَاعْلَمْ
أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد:
19]، وقال تعالى: {فَاعْفُ
عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [آل
عمران: 159]، ومحبة الشيء كراهة لضده، فيكون الله يكره السب لهم الذي هو ضد
الاستغفار، والبغض لهم الذي هو ضد الطهارة، وهذا معنى قول عائشة رضي الله عنها:
أُمِروا بالاستغفار لأصحاب محمد فسبوهم.
رواه مسلم، وروى مجاهد عن ابن عباس قال: لا تسبوا أصحاب محمد؛ إن الله قد أمر
بالاستغفار لهم، وقد علم أنهم سيقتتلون. رواه الإمام أحمد، وعن سعد بن أبي وقاص
قال: الناس على ثلاث منازل: فمضت منزلتان، وبقيت واحدة، فأحسن ما أنتم كائنون عليه
أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت قال: ثم قرأ: {لِلْفُقَرَاءِ
الْمُهَاجِرِينَ} إلى
قوله تعالى: {رِضْوَانًا} [الحشر:
8] فهؤلاء المهاجرين وهذه منزلة قد مضت، ثم قرأ: {وَالَّذِينَ
تَبَوَّءُو الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ} إلى
قوله: {وَلَوْ
كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:
9] قال: هؤلاء الأنصار وهذه منزلة قد مضت، ثم قرأ: {وَالَّذِينَ
جَاءُو مِن بَعْدِهِمْ} إلى
قوله: {رَءُوفٌ
رَحِيمٌ} [الحشر:
10] قد مضت هاتان، وبقيت هذه المنزلة؛ فأحسن ما أنتم كائنون عليه أن تكونوا بهذه
المنزلة التي بقيت: أن تستغفروا لهم.
ولأن من جاز سبه بعينه أو بغيره لم يجز الاستغفار له، كما لا يجوز الاستغفار
للمشركين لقوله تعالى: {مَا
كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ أَنْ يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ
وَلَوْ كَانُواْ أُولِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ
أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة:
113]، وكما لا يجوز أن يُستغفر لجنس العاصين مسمين باسم المعصية؛ لأن ذلك لا سبيل
إليه، ولأنه شَرَع لنا أن نسأل الله أن لا يجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا، والسب
باللسان أعظم من الغل الذي لا سب معه، ولو كان الغل عليهم والسب لهم جائزا لم يشرع
لنا أن نسأله ترك ما لا يضر فعله، ولأنه وصف مستحقي الفيء بهذه الصفة كما وصف
السابقين بالهجرة والنصرة، فعلم أن ذلك صفة للمؤثر فيهم، ولو كان السب جائزا لم
يشترط في استحقاق الفيء ترك أمر جائز، كما لا يشترط ترك سائر المباحات، بل لو لم
يكن الاستغفار لهم واجبا لم يكن شرطا في استحقاق الفيء، ولا يشترط فيه ما ليس
بواجب، بل هذا دليل على أن الاستغفار لهم داخل في عقد الدين وأصله.
تحريم سب الصحابة من السنة:
لقد دلت السنة النبوية المطهرة على تحريم سب الصحابة، والتعرض لهم بما فيه نقص، و
حذر النبي صَلَّى الله عليه وسلم من الوقوع في ذلك؛ لأن الله تعالى اختارهم لصحبة
نبيه، و نشر دينه وإعلاء كلمته، فبلغوا الذروة في محبته صَلَّى الله عليه وسلم
فكانوا له وزراء وأنصارًا يذبون عنه، وسعوا جاهدين منافحين لتمكين الدين في أرض
الله، حتى بلغ الأقطار المختلفة، ووصل إلى الأجيال المتتابعة كاملًا غير منقوص؛ ففي
الصحيحين عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "ولا
تسُبُّوا أصحَابي فوالذي نفسِي بيدِه لو أنَّ أحدَكم أنفَق مثلَ أُحُدٍ ذَهبا ما
أدْرَك مُدَّ أحدِهم ولا نَصِيْفَه"،
وفي رواية لمسلم، واستشهد بها البخاري قال: كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن
بن عوف شيء فسبه خالد فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "لا
تسُبُّوا أصحَابي فوالذي نفسِي بيدِه لو أنَّ أحدَكم أنفَق مثلَ أُحُدٍ ذَهبا ما
أدْرَك مُدَّ أحدِهم ولا نَصِيْفَه"،
وفي
رواية للبرقاني في صحيحه: "لا
تسُبُّوا أصحَابي، دَعُوا لي أصحَابي فإِنَّ أحدَكم لو أنفَق كُلَّ يَوم مثلَ
أُحُدٍ ذَهبا ما أدْرَك مُدَّ أحدِهم ولا نَصِيْفَه" فإن
قيل: لم نهى خالدا عن أن يَسُبَّ أصحابه إذا كان من أصحابه أيضا؟ وقال: "لو
أنَّ أحدَكم أنفَق مثلَ أُحُدٍ ذَهبا ما بَلَغَ مُدَّ أحدِهم ولا نَصِيْفَه" قلنا:
لأن عبد الرحمن بن عوف ونظراءه هم من السابقين الأولين، الذين صحبوه في وقت كان
خالد وأمثاله يعادونه فيه، وأنفقوا أموالهم قبل الفتح وقاتلوا، وهم أعظم درجة من
الذين أنفقوا من بعد الفتح وقاتلوا، وكلًا وعد الله الحسنى، فقد انفردوا من الصحبة
بما لم يشركهم فيه خالد ونظراؤه، ممن أسلم بعد الفتح الذي هو صلح الحديبية وقاتل،
فنُهِى أن يَسُبَّ أولئك الذين صحبوه قبله، ومن لم يصحبه قط نسبته إلى من صحبه
كنسبة خالد إلى السابقين وأبعد.
وقوله صَلَّى الله عليه وسلم: "لا
تسُبُّوا أصحَابي" خطاب
لكل أحد أن يسب من انفرد عنه بصحبته عليه الصلاة والسلام، وهذا كقوله عليه الصلاة
والسلام في حديث آخر: "أيها
الناس إني أتيتُكم فقلتُ: إني رسول الله إليكم، فقلتم: كذبتَ، وقال أبو بكر: صدقتَ؛
فهل أنتم تارِكوا لي صاحِبي؟ فهل أنتم تارِكُو لي صاحِبي؟" أو
كما قال، بأبي هو وأمي صَلَّى الله عليه وسلم، قال ذلك لما عاير بعض الصحابة أبا
بكر، وذاك الرجل من فضلاء أصحابه، ولكن امتاز أبو بكر عنه بصحبته وانفرد بها عنه.
وروى عبد الرحمن بن سالم بن عتبة بن عويم بن ساعدة عن أبيه عن جده قال: قال رسول
الله صَلَّى الله عليه وسلم: "إن
الله اختَارني واختارَ لي أصحَابا، جعَل لي منهم وزراء وأنصارًا وأصهارًا، فمن سبهم
فعليه لعنةُ الله والملائكةِ والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفًا
ولا عدلًا" وهذا
محفوظ بهذا الإسناد، وعن عبد الله بن مغفل قال: قال رسول الله صَلَّى الله عليه
وسلم: "اللهَ
اللهَ في أصحَابي، لا تتخذوهم غَرَضا مِن بَعدي، مَن أحَبَّهم؛ فقد أحبني، ومَن
أبغَضهم؛ فقد أبغَضني، ومَن آذاهُم؛ فقد آذاني، ومَن آذاني؛ فقد آذى اللهَ، ومَن
آذى الله؛ فيوشك أن يأخذه" رواه
الترمذي وغيره، وقال الترمذي: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، ورُوى هذا المعنى من
حديث أنَس أيضا؛ لفظه: "مَن
سَبَّ أصحابي فقد سبَّني، ومن سبني فقد سب الله" رواه
ابن البناء، وعن عطاء بن أبي رباح، عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: "لعنَ
اللهُ من سبَّ أصحابي" رواه
أبو أحمد الزبيري، وقد روي عن ابن عمر مرفوعا من وجه آخر ورواهما اللالكائي، وروى
أبو قلابة، عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "إذا
ذُكِر القَدَر فأمسِكوا، وإذا ذُكِر أصحابي فأمْسِكوا" رواه
اللالكائي.
وإذا كان شتمهم بهذه المثابة فأقل ما فيه التعزير؛ لأنه مشروع في كل معصية ليس فيها
حد ولا كفارة، وقد قال صَلَّى الله عليه وسلم: "انْصُر
أخَاك ظَالمًا أو مظْلومًا" وهذا
مما لا نعلم فيه خلافا بين أهل الفقه والعلم؛ من أصحاب رسول الله صَلَّى الله عليه
وسلم، والتابعين لهم بإحسان، وسائر أهل السنة والجماعة؛ فإنهم مجمعون على أن الواجب
الثناء عليهم، والاستغفار لهم، والترحم عليهم، والترضي عنهم، واعتقاد محبتهم،
وموالاتهم، وعقوبة من أساء فيهم القول.
ثم من قال: لا أقتُلُ بشتم غير النبي صَلَّى الله عليه وسلم. فإنه يستدل بقصة أبي
بكر المتقدمة؛ وهو أن رجلا أغلظ له ــ وفي رواية: شتمه ــ فقال له أبو برزة: أقتله؟
فانتهره، وقال: ليس هذا لأحد بعد النبي صَلَّى الله عليه وسلم، وبأنه كتب إلى
المهاجر بن أبي أمية: إن حد الأنبياء ليس يشبه الحدود؛ كما تقدم، ولأن الله تعالى
ميَّز بين مؤذي الله ورسوله، ومؤذي المؤمنين؛ فجعل الأول ملعونا في الدنيا والآخرة،
وقال في الثاني: {فَقَدِ
احْتَمَلُواْ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} [الأحزاب:
58] ومطلق البهتان والإثم ليس بموجب للقتل، وإنما هو موجب للعقوبة في الجملة، فيكون
عليه عقوبة مطلقة، ولا يلزم من العقوبة جواز القتل؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام
قال: "لا
يَحِلُّ دمُ امرئٍ مسلمٍ، يشهد أن لا إله إلا الله؛ إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان،
أو زنا بعد إحصان، أو رجلٌ قَتَل نفسًا فيُقْتل بها"،
ومطلق السب لغير الأنبياء لا يستلزم الكفر؛ لأن بعض من كان على عهد النبي عليه
الصلاة والسلام، كان ربما سب بعضُهم بعضا، ولم يكْفُر أحد بذلك، ولأن أشخاص الصحابة
لا يجب الإيمان بهم بأعيانهم، فسب الواحد لا يقدح في الإيمان بالله، وملائكته،
وكتبه، ورسله، واليوم الآخر.
وأما من قال: "يُقتل الساب" أو قال: "يكْفر" فلهم دلالات احتجوا بها؛ منها: قوله
تعالى: {مُحَمَّدٌ
رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ
بَيْنَهُمْ} إلى
قوله تعالى: {لِيَغِيظَ
بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:
29] فلا بد أن يغيظ بهم الكفار وإذا كان الكفار يُغاظون بهم؛ فمن غِيظ بهم فقد شارك
الكفار فيما أذلهم الله به وأخزاهم وكبتهم على كفرهم، ولا يشارك الكفار في غيظهم
الذي كُبِتوا به جزاءً لكفرهم إلا كافر، لأن المؤمن لا يُكْبَتُ جزاءً للكفر؛ يوضح
ذلك أن قوله تعالى: {لِيَغِيظَ
بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:
29] تعليق للحكم بوصف مشتق مناسب؛ لأن الكفر مناسب لأن يُغاظ صاحبه؛ فإذا كان هو
الموجب لأن يُغِيظ اللهُ صاحبَه بأصحابِ محمَّد صَلَّى الله عليه وسلم فمن غاظَهُ
اللهُ بأصحاب محمد صَلَّى الله عليه وسلم، فقد وُجِدَ في حقه ذلك وهو الكفر، وقال
الإمام عبد الله بن إدريس الأودي: ما آمنُ أن يكونوا قد ضارعوا الكفار ــ يعني
الرافضة ــ لأن الله تعالى يقول: {لِيَغِيظَ
بِهِمُ الْكُفَّارَ} وهذا
معنى قول الإمام أحمد: "ما أراه على الإسلام".
ومن ذلك: ما روي عن النبي صَلَّى الله عليه وسلم أنه قال: "مَن
أبغَضَهم فقد أبغضَني، ومن آذاهم فقد أذاني، ومن آذني فقد آذى الله" وقال
صَلَّى الله عليه وسلم: "فمن
سبَّهم فعليه لعنةُ الله والملائكة والناس أجمعين، ولا يقبَلُ الله منه صَرفا ولا
عَدلا" وأذى
اللهَ ورسولَه كفر موجب للقتل كما تقدم، وبهذا يظهر الفرق بين أذاهم قبل استقرار
الصحبة، وأذى سائر المسلمين، وبين أذاهم بعد صحبتهم له؛ فإنه على عهد قد كان الرجل
ممن يظهر الإسلامَ يمكن أن يكون منافقًا، ويمكن أن يكون مرتدًا، فأما إذا مات مقيما
على صحبة النبي صَلَّى الله عليه وسلم وهو غير مزنون بنفاق، فأذاه أذى مصحُوبِهِ؛
قال عبد الله بن مسعود: "اعتبروا؛ الناس بأخدانهم" وقالوا:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي
وقال مالك رضي الله عنه: "إنما هؤلاء أقوام أرادوا القدح في النبي عليه الصلاة
والسلام فلم يمكنهم ذلك فقدحوا في أصحابه، حتى يقال: رجل سوء، ولو كان رجلا صالحا
لكان أصحابه صالحين"، أو كما قال، وذلك أنه ما منهم رجل إلا كان ينصر اللهَ
ورسولَه، ويذب عن رسول الله بنفسه وماله، ويعينه على إظهار دين الله، وإعلاء كلمة
الله، وتبليغ رسالات الله وقت الحاجة، وهو حينئذ لم يستقر أمره، ولم تنتشر دعوته،
ولم تطمئن قلوب أكثر الناس بدينه، ومعلوم أن رجلًا لو عمل به بعض الناس نحو هذا، ثم
آذاه أحد لغضب له صاحبُه، وعَدَّ ذلك أذى له، وإلى هذا أشار ابن عمر؛ قال نسير بن
ذعلوق: سمعت ابن عمر رضي الله عنه يقول: "لا تسبوا أصحاب محمد صَلَّى الله عليه
وسلم، فإن مقام أحدهم خير من عملكم كله" رواه اللالكائي؛ وكأنه أخذه من قول النبي
صَلَّى الله عليه وسلم: "لو
أنفَق أحدُكم مثلَ أُحُدٍ ذَهبًا ما أدْرَك مُدَّ أحدِهم ولا نَصِيْفَه" وهذا
تفاوت عظيم جدا.
ومن ذلك: ما روي عن علي رضي الله عنه قال: "والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنه لعهد
النبي الأمي إلي أنه لا يحبك إلا مؤمن، ولا يبغضك إلا منافق" رواه مسلم، ومن ذلك:
ما خرجاه في الصحيحين عن أنس أن النبي صَلَّى الله عليه وسلم قال: "آية
الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار" وفي
لفظه قال في الأنصار: "لا
يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق"،
وفي الصحيحين أيضا عن البراء بن عازب عن النبي صَلَّى الله عليه وسلم أنه قال في
الأنصار: "لا
يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق من أحبهم أحبه الله ومن أبغضهم أبغضه الله"،
ولمسلم عن أبي هريرة أن النبي صَلَّى الله عليه وسلم قال: "لا
يبغض الأنصارَ رجل آمن بالله واليوم الآخر"،
وروى مسلم في صحيحه أيضا عن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صَلَّى الله عليه وسلم
قال:"لا
يبغض الأنصار رجل يؤمن بالله واليوم الآخر"؛
فمن سبهم فقد زاد على بغضهم، فيجب أن يكون منافقا لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر؛
وإنما خص الأنصار ــ والله أعلم ــ لأنهم هم الذين تبوَّؤوا الدار والإيمان من قبل
المهاجرين، وآووا رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، ونصروه، ومنعوه، وبذلوا في
إقامة الدين النفوس والأموال، وعادَوا الأحمر والأسود من أجله، وآووا المهاجرين،
وواسوهم في الأموال؛ وكان المهاجرون إذ ذاك قليلا غرباء، فقراء مستضعفين، ومن عرف
السيرة وأيام رسول الله عليه الصلاة والسلام، وما قاموا به من الأمر، ثم كان مؤمنا
يحب الله ورسوله، لم يملك أن لا يحبهم، كما أن المنافق لا يملك أن لا يبغضهم، وأراد
بذلك ــ والله أعلم ــ أن يعرف الناس قدر الأنصار، لعلمه بأن الناس يكثرون والأنصار
يقلون، وأن الأمر سيكون في المهاجرين، فمن شارك الأنصار في نصر الله ورسوله بما
أمكنه فهو شريكهم في الحقيقة، كما قال تعالى: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ أَنصَارَ اللَّهِ} [الصف:
14] فبغض من نصر الله ورسوله من أصحابه نفاق.
مأثورات عن السلف في بغض سابِّ الصحابة:
قال طلحة بن مصرف: كان يقال: بغض بني هاشم نفاق، وبغض أبي بكر وعمر نفاق، والشاكّ
في أبي بكر كالشاك في السنة، وروى إبراهيم بن الحسن بن علي بن أبي طالب عن أبيه عن
جده قال: قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: "يَظهر
في أمتي في آخر الزمان قوم يسمون الرافضة يرفضون الإسلام" هكذا
رواه عبد الرحمن بن أحمد في مسند أبيه، وفي السنة من وجوه صحيحة عن كثير النواء عن
إبراهيم بن الحسن عن أبيه عن جده يرفعه قال: "يجيء
قوم قبل قيام الساعة يسمون الرافضة براء من الإسلام" وكثير
النواء: يضعفونه، وروى حماد بن كيسان عن أبيه، وكانت أخته سرية لعلي رضي الله عنه
قال: سمعت عليا يقول: "يكون في آخر الزمان قوم لهم نَبَزٌ ـــ أي: ألقاب ـــ يسمون
الرافضة يرفضون الإسلام فاقتلوهم فإنهم مشركون" فهذا الموقوف على علي رضي الله عنه
شاهد في المعنى لذلك المرفوع.
وأيضًا فإن هذا مأثور عن أصحاب النبي صَلَّى الله عليه وسلم؛ فروى أبو الأحوص عن
إبراهيم قال: بلغ عليًا بن أبي طالب أن عبد الله بن سوداء يبغض أبا بكر وعمر، فهمّ
بقتله فقيل له: تقتل رجلًا يدعو إلى حبكم أهل البيت؟ فقال: لا يساكنني في دار
أبدًا، وفي رواية عن شباك قال: بلغ عليًا أن ابن السوداء يبغض أبا بكر وعمر، فدعاه
ودعا بالسيف أو قال: فهمّ بقتله فكلم فيه فقال: لا يساكنني ببلد أنا فيه؛ فنفاه إلى
المدائن، وهذا محفوظ عن أبي الأحوص، وقد رواه النجاد وابن بطة واللالكائي وغيرهم
ومراسيل إبراهيم جياد، ولا يظهر عن علي رضي الله عنه أنه يريد قتل رجل إلا وقتله
حلال عنده؛ ويشبه ــ والله أعلم ــ أن يكون إنما تركه خوف الفتنة بقتله، كما كان
النبي عليه الصلاة والسلام يمسك عن قتل بعض المنافقين؛ فإن الناس تشتتت قلوبهم عقب
فتنة عثمان رضي الله عنه، وصار في عسكره من أهل الفتنة أقوام لهم عشائر لو أراد
الانتصار منهم لغضبت لهم عشائرهم؛ وبسبب هذا وشبهه كانت فتنة الجمل.
وقال سعيد بن عبد الرحمن بن أبزي: قلت لأبي: يا أبت لو كنت سمعت رجلًا يسب عمر بن
الخطاب رضي الله عنه بالكفر؛ أكنت تضرب عنقه؟ قال: نعم. رواه الإمام أحمد وغيره،
ورواه ابن عيينة عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى قال: قلت لأبي: لو أُتيتَ برجُلٍ
يسب أبا بكر ما كنت صانعا؟ قال: أضرب عنقه، قلت: فعمر؟ قال: أضرب عنقه. وعبد الرحمن
بن أبزى من أصحاب النبي صَلَّى الله عليه وسلم أدركه وصلى خلفه، وأقره عمر رضي الله
عنه عاملًا على مكة، وقال: هو ممن رفعه الله بالقرآن؛ بعد أن قيل له: إنه عالم
بالفرائض قارئ لكتاب الله، واستعمله علي رضي الله عنه على خراسان، وروى وائل عن
البهي قال: وقع بين عبيد الله بن عمر وبين المقداد كلام، فشتم عبيدُ الله المقداد،
فقال عمر: "علي بالحدّاد أقطعْ لسانه؛ لا يجترئ أحد بعده يشتم أحدًا من أصحاب النبي
صَلَّى الله عليه وسلم" وفي رواية: فهمَّ عمر بقطع لسانه، فكلمه فيه أصحاب محمد
صَلَّى الله عليه وسلم فقال: "ذروني أقطع لسان ابني؛ لا يجترئ أحدٌ بعده يسب أحدًا
من أصحاب محمد صَلَّى الله عليه وسلم" رواه حنبل وابن بطة واللالكائي وغيرهم، ولعل
عمر إنما كف عنه لما شفع فيه أصحاب الحق؛ وهم أصحاب النبي صَلَّى الله عليه وسلم،
ولعل المقداد كان فيهم، وعن عمر بن الخطاب أنه أُتي بأعرابي يهجو الأنصار فقال:
"لولا أن له صحبة لكفيتكموه" رواه أبو ذر الهروي.
ويؤيد ذلك ما روى الحكم بن حجل قال: سمعت عليًا يقول: "لا يفضلني أحد على أبي بكر
وعمر رضي الله عنهما إلا جلدته حد المفتري"، وعن علقمة بن قيس قال: خطبنا علي رضي
الله عنه فقال: "إنه بلغني أن قومًا يفضلونني على أبي بكر عمر، ولو كنت تُقُدِّمتُ
في هذا لعاقبت فيه، ولكني أكره العقوبة قبل التقدم، ومن قال شيئًا من ذلك فهو
مفترٍ، عليه ما على المفتري؛ خير الناس كان بعد رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم
أبو بكر ثم عمر" رواهما عبد الله بن أحمد، وروى ذلك ابن بطة واللالكائي من حديث
سويد بن غفلة عن علي في خطبة طويلة خطبها، وروى الإمام أحمد بإسناد صحيح عن ابن أبي
ليلى قال: اختلفوا في أبي بكر وعمر، فقال رجل من عطارد: عمر أفضل من أبي بكر. فقال
الجارود: بل أبو بكر أفضل منه. قال: فبلغ ذلك عمر؛ قال: فجعل يضربه ضربًا بالدُّرة
حتى شغر برجله ـــ أي: رفع رجله ـــ ثم أقبل إلى الجارود، فقال: إليك عنى، ثم قال
عمر: أبو بكر كان خير الناس بعد رسول الله عليه الصلاة والسلام في كذا وكذا، ثم قال
عمر: من قال غير هذا أقمنا عليه ما نقيم على المفتري، فإذا كان الخليفتان الراشدان
عمر وعلي رضي الله عنهما يجلدان حد المفتري من يفضل عليًا على أبي بكر وعمر، أو من
يفضل عمر على أبي بكر ـــ مع أن مجرد التفضيل ليس فيه سب ولا عيب ـــ عُلِم أن
عقوبة السبّ عندهما فوق هذا بكثير؛ أما من اقترن بسبه دعوى أن عليًا إله، أو أنه
كان هو النبي وإنما غلط جبرئيل في الرسالة؛ فهذا لا شك في كفره بل لا شك في كفر من
توقف في تكفيره، وكذلك من زعم منهم أن القرآن نقص منه آيات وكُتمت، أو زعم أن له
تأويلات باطنة تسقط الأعمال المشروعة ونحو ذلك؛ وهؤلاء يسمون القرامطة والباطنية،
ومنهم التناسخية وهؤلاء لا خلاف في كفرهم.
وأما من سبهم سبًا لا يقدح في عدالتهم ولا في دينهم ـــ مثل وصف بعضهم بالبخل أو
الجبن أو قلة العلم أو عدم الزهد ونحو ذلك ـــ فهذا هو الذي يستحق التأديب
والتعزير، ولا نحكم بكفره بمجرد ذلك، وعلى هذا يحمل كلام من لم يكفرهم من أهل
العلم، وأما من لعن وقبح مطلقًا فهذا محل الخلاف فيهم، لتردد الأمر بين لعن الغيظ
ولعن الاعتقاد، وأمّا من جاوز ذلك إلى أن زعم أنهم ارتدوا بعد رسول الله عليه
الصلاة والسلام إلا نفرًا قليلًا يبلغون بضعة عشر نفسًا، أو أنهم فسّقوا عامتهم،
فهذا لا ريب أيضًا في كفره؛ لأنه كذب لما نصه القرآن في غير موضع؛ من الرضا عنهم
والثناء عليهم، بل من يشك في كفر مثل هذا فإن كفره متعين؛ فإن مضمون هذه المقالة أن
نقلة الكتاب والسنة كفار أو فساق، وأن هذه الآية التي هي: {كُنتُمْ
خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل
عمران: 110] وخيرها هو القرن الأول كان عامتهم كفارًا أو فسّاقًا، ومضمونها أن هذه
الأمة شر الأمم، وأن سابقي هذه الأمة هم شرارهم، وكفر هذا مما يعلم باضطرار من دين
الإسلام، ولهذا تجد عامة من ظهر عليه شيء من هذه الأقوال فإنه يتبين أنه زنديق؛
وعامة الزنادقة إنما يستترون بمذهبهم، وقد ظهرت لله فيهم مثلات، وتواتر النقل بأن
وجوههم تمسخ خنازير في المحيا والممات.
وفصل ابن تيمية في "الصارم المسلول" في سب الصحابة فتحدث عن:
حكم سب أزواج النبي صَلَّى الله عليه وسلم:
أولًا: حكم سب أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها:
قال القاضي أبو يعلى: من قذف عائشة بما برأها الله منه كفر بلا خلاف، وقد حكى
الإجماع على هذا غير واحد، وصرح غير واحد من الأئمة بهذا الحكم؛ فروي عن مالك: من
سب أبا بكر جُلِد، ومن سب عائشة قُتِلَ. قيل له: لم؟ قال: من رماها فقد خالف
القرآن؛ لأن الله تعالى قال: {يَعِظُكُمُ
اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [النور:
17] وقال أبو بكر بن زياد النيسابوري: سمعت القاسم بن محمد يقول لإسماعيل بن إسحاق:
أُتي المأمون "بالرقة" برجلين شتم أحدهما فاطمة، والآخر عائشة فأمر بقتل الذي شتم
فاطمة، وترك الآخر فقال إسماعيل: ما حكمهما إلا أن يقتلا؛ لأن الذي شتم عائشة رد
القرآن. وعلى هذا مضت سيرة أهل الفقه والعلم من أهل البيت وغيرهم؛ قال أبو السائب
القاضي: كنت يوما بحضرة الحسن بن زيد الداعي "بطبرستان" وكان يلبس الصوف، ويأمر
بالمعروف وينهى عن المنكر، ويوجه في كل سنة بعشرين ألف دينار إلى مدينة السلام،
يفرق على سائر ولد الصحابة، وكان بحضرته رجل فذكر عائشة بذكر قبيح من الفاحشة فقال:
يا غلام اضرب عنقه، فقال له العلويين: هذا رجل من شيعتنا. فقال: معاذ الله هذا رجل
طعن على النبي صَلَّى الله عليه وسلم؛ قال الله تعالى: {الْخَبِيثَاتُ
لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ
وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم
مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}[النور:
26]؛ فإن كانت عائشة خبيثة فالنبي صَلَّى الله عليه وسلم خبيث؛ فهو كافر، فاضربوا
عنقه، فضربوا عنقه وأنا حاضر. رواه اللالكائي، ورُوي عن محمد بن زيد أخي الحسن بن
زيد أنه قدم عليه رجل من العراق، فذكر عائشة بسوء، فقام إليه بعمود فضرب به دماغه
فقتله، فقيل له: هذا من شيعتنا ومن بني الآباء، فقال: هذا سمى جدي قرنان ــ
وَالْقَرْنَانُ نَعْتُ سَوْءٍ فِي الرَّجُلِ الَّذِي لَا غَيْرَةَ لَهُ ــ ومن سمى
جدي قرنان استحق القتل فقتله.
ثانيًا: حكم سب غير عائشة من أمهات المؤمنين رضي الله عنهن:
وأما من سب غير عائشة من أزواجه صَلَّى الله عليه وسلم ففيه قولان:
أحدهما: أنه كسَابِّ غيرهن من الصحابة على ما سيأتي.
والثاني: وهو الأصح أنه من قذف واحدة من أمهات المؤمنين فهو كقذف عائشة رضي الله
عنها، وقد تقدم معنى ذلك عن ابن عباس؛ وذلك لأن هذا فيه عارٌ وغضاضةٌ على رسول الله
صَلَّى الله عليه وسلم، وأذى له أعظم من أذاه بنكاحهن بعده، وقد تقدم التنبيه على
ذلك فيما مضى عند الكلام على قوله: {إِنَّ
الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأحزاب:
57] الآية. والأمر فيه ظاهر.
حكم سب أحد من أصحاب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم:
وأما من سب أحدًا من أصحاب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم ـــ من أهل بيته وغيرهم
ـــ فقد أطلق الإمام أحمد أنه يضرب نكالا وتوقف عن قتله وكفره، قال أبو طالب: سألت
أحمد عمن شتم أصحاب النبي صَلَّى الله عليه وسلم قال: القتل أجبُن عنه، ولكن أضربه
ضربا نكالا، وقال عبد الله: سألت أبي عمن شتم أصحاب النبي صَلَّى الله عليه وسلم
قال: أرى أن يضرب. قلت له: حَد؟ فلم يقف على الحد إلا أنه قال: يضرب.
وقال: ما أراه
على الإسلام. وقال: سألت أبي: مَنِ الرافضة؟ فقال: الذين يشتمون ـــ أو يسبون ـــ
أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، وقال في الرسالة التي رواها أبو العباس أحمد بن يعقوب
الإصطخري وغيره: وخير الأمة بعد النبي صَلَّى الله عليه وسلم أبو بكر، وعمر بعد أبي
بكر، وعثمان بعد عمر، وعلي بعد عثمان، ووقف قوم، وهم خلفاء راشدون مهديون، ثم أصحاب
رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم بعد هؤلاء الأربعة خير الناس لا يجوز لأحد أن يذكر
شيئا من مساويهم، ولا يطعن على أحد منهم بعيب ولا نقص، فمن فعل ذلك فقد وجب تأديبه
وعقوبته، وليس له أن يعفو عنه بل يعاقبه ويستتيبه؛ فإن تاب قبل منه وإن ثبت أعاد
عليه العقوبة، وخلده في الحبس حتى يموت أو يراجع،وحكى الإمام أحمد هذا عمن أدركه من
أهل العلم، وحكاه الكرماني عنه وعن إسحاق والحميدي وسعيد بن منصور وغيرهم، وقال
الميموني: سمعت أحمد يقول: ما لهم ولمعاوية؟ نسأل الله العافية. وقال لي: يا أبا
الحسن إذا رأيت أحدا يذكر أصحاب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم بسوء فاتهمه على
الإسلام، فقد نص رضي الله عنه على وجوب تعزيره واستتابته حتى يرجع بالجلد، وإن لم
ينته حبس حتى يموت أو يراجع وقال: "ما أراه على الإسلام" وقال: "واتهمه على
الإسلام" وقال: "أجبن عن قتله"، وقال إسحاق بن راهويه: "من شتم أصحاب النبي صَلَّى
الله عليه وسلم يعاقب ويحبس، وهذا قول كثير من أصحابنا منهم ابن أبي موسى قال: "ومن
سب السلف من الروافض فليس بكفؤ، ولا يزوج، ومن رمى عائشة رضي الله عنها بما برأها
الله منه فقد مرق من الدين، ولم ينعقد له نكاح على مسلمة إلا أن يتوب ويظهر توبته.
وهذا في الجملة قول عمر بن عبد العزيز وعاصم الأحول وغيرهما من التابعين.
قال الحارث بن عتبة: إن عمر بن عبد العزيز أُتي برجل سب عثمان فقال: ما حملك على أن
سببته؟ قال: أبغضه، قال: وإن أبغضت رجلا سببته؟ قال: فأمر به فجلد ثلاثين سوطا،
وقال إبراهيم بن ميسرة: ما رأيت عمر بن عبد العزيز ضرب إنسانا قط إلا رجلا شتم
معاوية فضربه أسواطا. رواهما اللالكائي، وقد تقدم عنه أنه كتب في رجل سبه: لا يقتل
إلا من سب النبي صَلَّى الله عليه وسلم، ولكن أجلده فوق رأسه أسواطا، ولولا أني
رجوت أن ذلك خير له لم أفعل، وروى الإمام أحمد: عن عاصم الأحول قال: أُتيت برجل قد
سب عثمان، قال: فضربته عشرة أسواط قال: ثم عاد لما قال فضربته عشرة أخرى قال: فلم
يزل يسبه حتى ضربته سبعين سوطا، وهو المشهور من مذهب مالك؛ قال مالك: من شتم النبي
صَلَّى الله عليه وسلم قُتِلَ، ومن سب أصحابه أُدِّبَ، وقال عبد الملك بن حبيب: من
غلا من الشيعة إلى بغض عثمان والبراءة منه أُدِّبَ أدبا شديدا، ومن زاد إلى بغض أبي
بكر وعمر فالعقوبة عليه أشد، ويكرر ضربه ويطال سجنه حتى يموت، ولا يبلغ به القتل
إلا في سب النبي صَلَّى الله عليه وسلم، وقال ابن المنذر: "لا أعلم أحدا يوجب قتل
من سب من بعد النبي صَلَّى الله عليه وسلم" وقال القاضي أبو يعلى: الذي عليه
الفقهاء في سب الصحابة: إن كان مستحلا لذلك كفر، وإن لم يكن مستحلا فسق، ولم يكفر
سواء كفرهم أو طعن في دينهم مع إسلامهم.
وقد قطع طائفة من الفقهاء من أهل الكوفة وغيرهم بقتل من سب الصحابة
وكفر الرافضة:
قال محمد بن يوسف الفريابي؛ وسئل عمن شتم أبا بكر؛ قال: كافر. قيل: فيصلى عليه؟
قال: لا. وسأله: كيف يصنع به وهو يقول: لا إله إلا الله؟ قال: لا تمسوه بأيديكم،
ادفعوه بالخشب حتى تواروه في حفرته، وقال أحمد بن يونس: لو أن يهوديا ذبح شاة، وذبح
رافضيٌّ لأكلت ذبيحة اليهودي ولم آكل ذبيحة الرافضي؛ لأنه مرتد عن الإسلام، وكذلك
قال أبو بكر بن هانئ: لا تؤكل ذبيحة الروافض والقدرية؛ كما لا تؤكل ذبيحة المرتد مع
أنه تؤكل ذبيحة الكتابي؛ لأن هؤلاء يُقامون مقام المرتد، وأهل الذمة يقرون على
دينهم وتؤخذ منهم الجزية، وكذلك قال عبد الله بن إدريس من أعيان أئمة الكوفة: "ليس
لرافضي شفعة إلا لمسلم"،
وقال فضيل بن مرزوق: سمعت الحسن بن الحسن يقول لرجل من الرافضة: والله إن قتلك
لقربة إلى الله، وما أمتنع من ذلك إلا بالجواز،وفي رواية قال: رحمك الله قذفت؛ إنما
تقول هذا تمزح؟ قال: لا والله ما هو بالمزاح ولكنه الجد. قال: وسمعته يقول: لئن
أمكننا الله منكم لنقطعن أيديكم وأرجلكم، وصرح جماعات من أصحابنا بكفر الخوارج
المعتقدين البراءة من علي وعثمان وبكفر الرافضة المعتقدين لسب جميع الصحابة الذين
كفروا الصحابة وفسقوهم وسبوهم، وقال أبو بكر عبد العزيز في "المقنع": "فأما الرافضي
فإن كان يسب فقد كفر فلا يزوج" ولفظ بعضهم وهو الذي نصره القاضي أبو يعلى: أنه إن
سبهم سبا يقدح في دينهم وعدالتهم كفر،بذلك وإن سبَّهم سبًّا لا يقدح ـــ مثل أن يسب
أبا أحدهم، أو يسبه سبا يقصد به غيظه ونحو ذلك ـــ لم يكفر،
وقال أحمد في رواية أبي
طالب في الرجل يشتم عثمان: "هذا زندقة". وقال في رواية المروزي: "من شتم أبا بكر
وعمر وعائشة ما أراه على الإسلام" وقال القاضي أبو يعلى: فقد أطلق أحمد القول فيه
أنه يكفر بسبه لأحد من الصحابة، وتوقف في رواية عبد الله، وأبي طالب عن قتله، وكمال
الحد وإيجاب التعزير يقتضي أنه لم يحكم بكفره، قال: فيحتمل أن يحمل قوله: "ما أراه
على الإسلام" إذا استحل سبهم بأنه يكفر بلا خلاف، ويحمل إسقاط القتل على من لم
يستحل ذلك بل فعله مع اعتقاده لتحريمه كمن يأتي المعاصي، قال: ويحتمل قوله: "ما
أراه على الإسلام" على سب يطعن في عدالتهم نحو قوله: ظلموا وفسقوا بعد النبي صَلَّى
الله عليه وسلم، وأخذوا الأمر بغير حق، ويحمل قوله في إسقاط القتل على سب ولم يطعن
في دينهم، نحو قوله: كان فيهم قلة علم، وقلة معرفة بالسياسة والشجاعة، وكان فيهم شح
ومحبة للدنيا ونحو ذلك، قال: ويحتمل أن يحمل كلامه على ظاهره؛ فتكون في سابهم
روايتان: إحداهما يكفر، والثانية يفسق، وعلى هذا استقر قول القاضي وغيره حكوا في
تكفيرهم روايتين" انتهى كلام ابن تيمية.
وهكذا نجد أن أهل العلم قد اختلفوا في الحكم والعقوبة التي يستحقها من سب أصحاب
رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم أو جرحهم، هل يكفر بذلك، وتكون عقوبته القتل، أو
أنه يفسق بذلك ويعاقب بالتعزير؟
الرأي الأول: ذهب جمهور العلماء إلى أن سابّ الصحابة لا يكفر بسبهم بل يفسق ويضلل،
ولا يعاقب بالقتل بل يكتفى بتأديبه، وتعزيره تعزيرًا شديدًا يردعه ويزجره، حتى يرجع
عن ارتكاب هذا الجرم الذي يعتبر من كبائر الذنوب، وفواحش المحرمات، وإن لم يرجع
تكرر عليه العقوبة حتى يظهر التوبة. وممن يرى ذلك من الأئمة: عمر بن عبد العزيز،
وعاصم الأحول، وإسحاق بن راهويه؛ كما ذكره ابن تيمية في "الصارم المسلول"، وكما جاء
في "الشفاء" للقاضي عياض.
الرأي الثاني: ذهب بعض العلماء إلى القول بتكفير من سبَّ الصحابة رضي الله عنهم، أو
انتقصهم، وطعن في عدالتهم، وصرَّح ببغضهم، وأن من كان هذه صفته فقد أباح دم نفسه،
وحل قتله، إلا أن يتوب من ذلك ويترحم عليهم. وممن ذهب إلى هذا القول: عبد الرحمن بن
أبزى، وسفيان بن عيينة كما في كتاب "النهي عن سب الأصحاب"، وعبد الرحمن بن عمرو
الأوزاعي، وأبو بكر بن عياش كما في "شرح الإبانة" لابن بطة.