كتاب قول الصدق في ذم وعلاج العشق

  محيط البوك المادة

صفحة المقالات العامة
  كتاب قول الصدق في ذم وعلاج العشق     
 

الكاتب : تاليف الشيخ ابو البراء الاحمدي    

 
 

 الزوار : 1867 |  الإضافة : 2020-11-15

 

مركز المعلومات العامة

 قولُ الصِّدقِ في ذمِّ وعلاج العِشْق



تأليف العبد الفقير إلى ربه أبى البراء إلاحمدى


بسم الله الرحمن الرحيم

كتاب

كتاب قول الصدق في ذم وعلاج العشق



تأليف

العبد الفقير إلى ربه الغنى

أبى البراء إلاحمدى

غفر الله له ولوالديه ومشائخه والمسلمين

الحمد لله الرحيم الرحمن ، خلق إلانسان علمه البيان ، وأسبغ عليه نعمه ظاهرة و باطنة ، فهداه من ضلال ، وسيَّر حاله لأحسن حال ، فاللهم إنا نحمدك على ما علمتنا من البيان ، وألهمتنا من التبيان ، كما نحمدك اللهم على ما أسبغت علينا من العطاء ، وأسبلت من الغطاء ، ونعوذ بك من ذلة اللسان ، كما نعوذ بك من معرَّة اللَّكن ، ونعوذ بك من الكبر والرياء ، ونسألك اللهم أن لاتلفت أنفسنا لإطراء مادح ، ولاتغير أفئدتنا بازدراء قادح ، ونعوذ بك أن نكون من أهل الشهوات ، ونستغفرك أن نكون عند الشبهات ، كما نستغفرك من نقل الخطوات إلى درك الخطيئات ، ونسألك أن توفقنا إلى ما تحب وترضى ، وأن تأخذ بنواصينا للبر والتقوى ، وأن توفقنا إلى كل خير ، وأن تجعل توفيقنا قائدا إلى الرشد ، وارزقنا اللهم قلبا لايركن إلا للحق ، ولسانا متحليا بالصدق ، ونُطقا مؤيَّدا بالحجة ، وأبعد اللهم قلوبنا وأبصارنا عن الزيغ ، واجعل عزيمتنا قاهرة لهوى النفس ، اللهم اجعلنا هداة مهتدين ، غير ضالين ولامضلين ، ونسألك ياربنا أن تسعدنا بالهداية ، وتعصمنا من الغواية ، وتصرفنا عن السفهاء والسفاهة ، اللهم أمِّن بدوام ذكرك حصائد ألسنتنا ، ولا توردنا مورداً فيه مأثمة ، ولا توقفنا موقف مندمة ، وشفِّع فينا المصطفي صلى الله عليه وسلم ، وأوردنا حوضه ، واسقنا بيده شربه ليس بعدها ظمأ ، اللهم حقق لنا هذه إلامنية ، فقلت وقلك الحق : أدعونى أستجب لكم ، فاللهم إنا قد مددنا إليك يد المسألة ، وخضعنا لعظمتك وهيبتك ، فإنا نعلم أنك جواد كريم ، وفضلك عظيم ، فاللهم صلى على محمد سيد البشر ، الشفيع المشفع في المحشر ، خاتم النبيين ، وإمام المرسلين ، فاللهم كما أعليت درجته في عليين ، ووصفته في كتابك المبين ، فقلت وأنت أصدق القائلين: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107) } سورة إلانبياء ، فاللهم صلى عليه وعلى آله الهداة المهديين ، وأصحابه أجمعين ، واجعلنا لهديه وهديهم متبعين ، وانفعنا بمحبته ومحبتهم أجمعين ، إنك على كل شيء قدير ، وبإلاجابة جدير .


وبعــــــــــــد

فإن حال الناس عامة والمسلمين خاصة في زماننا هذا يحتاج إلى وقفة متأمل يخاف الله والدار إلاخرة ، ويرجوا رحمة ربه ، فأهل هذا الزمان على غير هدى ، إلا من رحم الله ، ظهر الفساد ، وانقاد الناس له ، إلا من رحم الله ، ففي الشارع المسلم وأسواق المسلمين ترى من التبرج والسفور والميوعة والخلاعة ماينخلع له القلب ، ويصبح له الحليم حيران . وما تعرضه أكثر وسائل إلاعلام ، من أغانٍ ماجنة ، وصور خليعة فاضحة ، وقصص مفبركة ساقطة ، وأفلام تافهة هابطة ، لا معنى ولا هدف لها ، إلا ما يُحرك الغريزة الغير متعففة ، ويثيرشهوة المتزوج إلاحمق ، الذي لم يملأ عينه بحرثه الذي أحله الله له ، والكهل الذي ماأثـَّر فيه طول الزمن ، ولاشيبة الشعر ، ولا انحناء الظهر ، فكيف بالمراهقين من الشباب والفتيات ؟ ، ويتساهل الناس فلا يُبالون بعرض هذه إلاشياء في بيوتهم ، بل يدافعون عنها دفاع إلابطال ، ويتهمون من يتكلم مثل هذا الكلام بأنه أحمق رجعى ، لا يعرف عن الحضارة شئ ، ثم يفاجئون بوقوع أولادهم في إلانحراف ، فيبكون ويتباكون على أيام كان إلادب سيدها ، والوقار عنوانها ، ولا يدرى صاحب البيت أنه يتحمل وزر هذه السواقط يوم القيامة أمام ربه جل وعلا .

ولو رجع إلى أصل المسألة لعلم أن ورائها أبواقا علمانية ضالة مُضلِّلة ، تسعى لنشر هذا السقوط إلاخلاقى وإلاجتماعي ، فيجمِّلونها في مقإلاتهم الصحفية تارة ، ويزيفون الحقائق أخرى ، فيجعلون الضالين المضللين نجوما وأصحاب كلمة ومال ، أو يقرضون القصائد الغرامية التى تهتك الستر ، وترفع عن إلامة شبابا وشيبا ، وفتيات ونساء ، الخجل والحياء ، ومن المعلوم الذي لا شك فيه أن هذا التيار العلمانى يسعى بكل قوة ، ويجاهداً بكل ما أوتي من حيلة ووسائل ، إلى تغريب المسلمين ، فيريد زعزعة العقيدة ، وطمس الهوية إلاسلامية ، ويريد أن يكون واقع المسلمين مشابها للحياة الغربية الكافرة الماجنة المنحلة التى لا يضبطها ضابط ، ولا تنقاد إلا لشهواتها ، وملذاتها ، أما وإنه وجب على كل مسلم حصيف واع أن يفضح هؤلاء ويقاوم شرورهم فلا يركن إليهم ، ولايسمع لهم كلمة ، ولايكون سببا في رواج بضاعتهم الخاسرة ، وإلا لو تُرك إلامر لهم ، لنشروا خبثهم ، ولو انتشر هذا الخبث ، أصابنا الغضب الذي يسبق الهلاك والدمار ، فعند ابن ماجة بسند صحيح من حديث زينب بنت جحش أنها قالت : استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم من نومه ، وهو مُحمرُّ وجهه ، وهو يقول : { لا إله إلا الله ، ويل للعرب من شر قد اقترب ، فـُتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج ، وعقد بيديه عشرة } ، قالت زينب ، قلت يا رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم ــ : أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال : { إذا كثر الخبث } .

ومن المعلوم أن هذا الخبث مُجلب لأمور جِدٌّ خطيرة على المجتمع ، فتتغير به نظم الحياة المستقرة ، وتتبلد به العقول التى سعت إليه ، وتنحرف إلاخلاق التى من الواجب عليها أن تكون قويمة ، فإذا كثر وزاد في الناس هذا الخبث ، كان ظاهر المجتمع الفساد ، ولا يرى فساد المجتمع إلا أهل الصلاح والعفاف ، ومن هذه إلامور التى تَعُودُ على المجتمع بالفساد ، عشق الصُّور ، فكثير من الناس يسعى خلف أصحاب الصور أو صاحباتها ، سواء كانا متعارفين أو لايعرف طرفا منهما إلاخر ، فإن تعاشقا أحب كل معشوق معشوقه ، حتى يوصل حبه له درجة العبادة ، وأصبحت اللفظة سهلة على ألسنة السفهاء من البشر ، فترى العاشق أو المعشوق كلاهما يقول للآخر ــ أحبك لدرجة العبادة ــ أو يقول له ــ أعبدك ــ هذه إلالفاظ أصبحت تقال على الملأ ولم يتحرك لها أحد ، ولا إله إلا الله وحسبنا الله ونعم الوكيل ، وصدق الله العظيم : { ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) } سورة الروم ، وإن كان العشق من طرف دون آخر ، اشتد هذا الطرف وأسرف في عشقه ، فمن المعلوم أن إلانسان حريص على ما مُنع منه ، ففي العشق كلما كان إعراض المعشوق أكثر ، كان شدة عشق العاشق أكثر .

ولهذا لا يكون عشق الصور إلا مِن ضعف محبة الله جل وعلا ، وضعف إلايمان ، والله تعالى إنما ذكره في القرآن عن امرأة العزيز المشركة ، وعن قوم لوط المشركين ، والعاشق المتيم ، يصير عبدا لمعشوقه ، منقادا له ، أسير القلب له .

قال الله عز وجل { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58) } سورة يونس

فاعلم رحمنى الله وإياك أن الله تعالى وصف القرآن الكريم في هذه إلاية بصفات أربع :

أولها : كونه موعظة من عند الله .

وثانيها : كونه شفاء لما في الصدور.

وثالثها : كونه هدى.

و رابعها : كونه رحمة للمؤمنين .

وإلاصل في التشريع القرآني للنساء قوله تعالى : { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ إلاولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآَتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33) } سورة إلاحزاب

وإن كان الحكم موجَّها لنساء النبى صلى الله عليه وسلم ، فالعبرة ، عند أهل الشرع والدين ، بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، وبهذا وجب على كل امرأة ، أن لا يكون خروجها من بيتها إلا لضرورة مُلحَّة .

ويستثنى من العشق عشق الزوجين فهو مباح شرعا ، شريطة أن يكون في طاعة الله ورضوانه ، والمرأة في الدنيا ، تتمثل بالحور العين في الجنة ، فزوجة الرجل في الدنيا ، سيدة الحور في الجنة ، قال الله تعالى في الحور العين : { وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37) لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38) } سورة الواقعة

أولا : جرى الضمير على غير مذكور . لكن لمَّا دل سياق إلايات ، وهو ذكر الفرش على النساء اللاتي يُضاجَعن فيها ، اكتُفي بهذه الفرش عن ذكرهن ، وعاد الضمير عليهن .

ثانيا : قال قتادة ــ عـُرُبًا ــ : عُشَّقا لأزواجهنّ .

وقال سعيد بن جبير : العُرُب اللاتي يشتهين أزواجهنّ .

وقال مجاهد والضحاك : العُرُب: المتحببات لأزواجهن .

وجاء في مختصر الشمائل المحمدية للإمام الترمذى ، وغاية المرام في تخريج أحاديث الحلال والحرام لشيخنا إلالبانى وحسنه عن الحسن : أن امرأة عجوز ا جاءته تقول له : يا رسول الله ادع الله لي أن يدخلني الجنة فقال لها يا أم فلان إن الجنة لا يدخلها عجوز وانزعجت المرأة وبكت ظنا منها أنها لن تدخل الجنة فلما رأى ذلك منها بين لها غرضه أن العجوز لن تدخل الجنة عجوزا بل ينشئها الله خلقا آخر فتدخلها شابة بكرا ، وتلا ــ صلى الله عليه وسلم ــ عليها قول الله تعالى : { إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37) } .

قال الطبرى : وقوله :( عُرُبًا ) يقول تعالى ذكره : فجعلناهنّ أبكارًا غنِجات، متحببات إلى أزواجهنّ يُحسنَّ التبعل ، وهي جمع ، واحدهن عَرُوب ، كما واحد الرسل رسول ، وواحد القطف قطوف ، ومنه قول لبيد: وفي الْحُدُوجِ عَرُوبٌ غيرُ فاحِشَةٍ رَيَّا الرَّوَادِفِ يَعْشَى دوَنها البَصَرُ

واختلف القرّاء في قراءة عربا ، فقرأ حمزة وشعبة وخلف ــ عُرْبَاً ــ بضم العين وسكون الراء ، وباقى القراء العشرة قرأوا ــ عُرُبَاً ــ بضم العين والراء ، وهي لغة تميم وبكر، والضم في الحرفين أولى القراءتين بالصواب لذكر أهل اللغة أنها : جمع عُـرُوب ، وإن كان فعول أو فعيل أو فعال إذا جُمع ، جُمع على فـُعُل بضم الفاء والعين ، مذكرًا كان أو مؤنثا .


ــــــــ{ مراتب حب الهوى }ــــــــ

إن كل حب في غير الله مبتور ، متروك ، لأنه حب هوى ، وحب الهوى مراتب أوله : العلاقة ثم الصبابة ثم الغرام ثم العشق ثم التتيم .

فالعلاقة : هي اتصال المحب بمن أحب ، فإلاتصال سبب لهذا الحب ، وإلاتصال يكون إما باللقاء أو بالوصف ، ولهذا أمر الله عز وجل النساء بأن يقرن في بيوتهن ، ولا يخرجن لغير حاجة ، فإن خرجن فلا يكون خروجهن إلا بمحرم يكن حرزا ووقاية من الذي في قلبه مرض قال الله تعالى في سورة إلاحزاب : { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ إلاولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآَتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33) } . سورة إلاحزاب


والصبابة : هي رقة الشوق بولهٍ وهيام ، وهو ذهاب العقل ، كقول قيس في ليلى العامرية :

فإن قـــرَّ قـلبي فاتهمه وقــُل له ... بمن أنت بعـد العامــرية مولـــع

ولو أن هذا الدمع يجـري صبابة ...على غير ليلى قلت دمع مضـيع

لقيت أمـــورا فيك لم ألق مثلـها ... وأعـظـــــم منها منك ما أتوقــع

والغرام : الذي عنده غرام هو الذي قد لزمه الحب ، ويصعب انفكاكه منه ، يقال: حُبُّه غرام، أي لاتفصى منه . ومنه عذاب غرام . ولعجب ما تقرأ في مقامات الحريرى قوله :

واغضُضِ الطّرْفَ تسترحْ من غرامٍ ... تكتَسي فيهِ ثوْبَ ذلٍ وشَينِِ

فبَلاءُ الفتى اتّباعُ هــــــــوَى النّفسِ ... وبذرُ الهَوى طُمــوحُ العينِ

والعشق : مدار بحثنا عليه إن شاء الله .

وآخر ذلك : التتيُّم : وهو التعبد للمعشوق ، فيصير العاشق عبدا لمعشوقه ، والله سبحانه وتعالى إنما حكى عشق الصور في القرآن عن المشركين ـــ كما أسلفنا ـــ فحكاه عن امرأة العزيز ، وكانت مشركة على دين زوجها ، وكانت في قوم مشركين ، وحكاه عن اللوطية ــ قوم لوط ــ وكانوا مشركين ، فقال الله تعالى في قصتهم : { لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) } سورة الحجر . وأخبر سبحانه وبحمده أنه يصرف السوء عن أهل إلاخلاص فقال عن يوسف عليه السلام : { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَوَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) } سورة يوسف . وأخبر سبحانه عن عدوه إبليس : أنه قال : { قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) } سورة ص وقال الله عز وجل لأبليس عليه لعنة الله : { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) } سورة الحجر .

والغي ضد الرشد ، والعشق المحرم من أعظم الغي .

ــــــــــ{ العشق في اللغة }ــــــــ

قال أهل اللغة في قول الله تعالى : " شغفها حبا " هو العشق مع حرقة .

والعشق : معروف ، عشق يعشق عشقا.

قال الجوهرى في الصِّحَاح : العشق فرط الحب ، وعشق عشقا مثل علم علما .

وقال ابن السراج : في عشق : إنما حرَّكه ضرورة وإنما لم يُحرِّكه بالكسر إتباعا للعين ، كأنه كره الجمع بين كسرتين ، فإن هذا عزيز في إلاسماء ، ورجل عشيق: مثل فسيق أي كثير العشق ، والتعشق : تكلف العشق .

وقال ابن سيِّده : العشق : عجب المحب بالمحبوب ، يكون في عفاف الحب ودعارته يعني في العفة والفجور .

وقيل : العشق الاسم ، والعشق المصدر ، وقيل هو مأخوذ من شجرة يقال لها عاشقة تخضرُّ ثم تدق وتصفر .

وقال الزجاج : واشتقاق العاشق من ذلك .

وقال الفراء : عشق عشقا ، وعشقا إذا أفرط في الحب ، والعاشق الفاعل ، والمعشوق المفعول ، والعشيق : يقال لهذا ولهذا وامرأة عاشق وعاشقة قال :

ولذ كطعم الصرخدي طرحته ... عشية خمس القوم والعين عاشقه

وقال الفراء أيضا : العشق : نبت لزج ، وسمي العشق الذي يكون من إلانسان للصوقه بالقلب .

وقال ابن إلا عرابي : العشقة : اللبلابة تخضرُّ وتصفر وتعلق بالذي يليها من إلا شجار فاشتق من ذلك العاشق .

وقال أبو عبيد : امرأة عاشق بغير هاء ، ورجل عاشق مثله.
وقد اختلف الناس هل يطلق هذا الاسم في حق الله تعالى فقالت طائفة من الصوفية لا بأس بإطلاقه ، وذكروا فيه أثرا لا يثبت ، وفيه فإذا فعل ذلك عشقني وعشقته .

وقال الجمهور : لا يُطلق ذلك في حقه سبحانه وتعالى فلا يقال إنه يُعشق ولا يقال عشقه عبده ، ثم اختلفوا في سبب المنع على ثلاثة أقوال :

أحدها : عدم التوقيف بخلاف المحبة .

الثاني : أن العشق إفراط المحبة ، ولا يمكن ذلك في حق الرب تعالى ، فإن الله تعالى لا يوصف بإلافراط في الشيء ، ولا يبلغ عبده ما يستحقه من حبه فضلا أن يقال أفرط في حبه .

الثالث : أنه مأخوذ من التغير ، كما يقال للشجرة المذكورة عاشقة ، ولا يطلق ذلك على الله سبحانه وتعالى .

والعشق : فرط الحب. ويقال : عشقه عشقا وعشقا أيضا. ورجل عشيق ، أي كثير العشق . والتعشق: تكلف العشق. ويقولون امرأة محبٌ لزوجها وعاشق .

وكذا يقال في اللغة : صبأ الرجل إذا عشق وهوى.

لأنهم يعرفون الصَّبوة : فيقولون الصبوة: هي إلانحلال عن قيد الرجال .

فيقال صبأ الرجل: إذا مال وزاغ ، ولذلك قيل لمن مال عن الحق وزاغ عن منهج الله القويم : الصابئة .

وقال ابن إلاعرابي : صب الرجل إذا عشق ، يصب صبابة. والصبابة : رقة الهوى . قال وصب الرجل والشيء : إذا محق . وصب الرجل إذا عشق ، يصب صبابة ، ورجل صب ، ورجلان صبان ، ورجال صبون ، وامرأتان صبتان ، ونساء صبات ، على مذهب من قال : رجل صب بمنزلة قولك : رجل فـَهـِم وحذر ، وأصله : صبب ، فاستثقلوا الجمع بين باءين متحركتين ، فأسقطوا حركة الباء إلاولى ، وأدغموها في الباء الثانية ، قال : ومن قال : رجل صبٌّ ، وهو يجعل الصب مصدر صببت صبا ، على أن يكون إلاصل فيه صببا ، ثم لحقه إلادغام ، قال : في التثنية رجلان صب ، ورجال صب ، وامرأة صب . راجع لسان العرب لابن منظور ، وتاج العروس من جواهر القاموس للزبيدى .

وقال الليث : رجل صب ، وامرأة صبة ، والفعل يصب إليها عشقا . راجع تهذيب اللغة للأزهرى .

قال إلازهرى في كتابه تهذيب اللغة : " سئل أبو العباس أحمد بن يحيى عن الحب والعشق أيهما أحمد؟ فقال : الحب ، لأن العشق فيه إفراط . وقال ابن إلاعرابي : العشَّق من إلابل : الذي يلزم طروقته ولا يحن إلى غيرها . وقال : والعُشَّق: اللبلاب ، واحدتها عشقة . وقال : والعشق : إلاراك أيضا . وقال : وسمي العاشق عاشقا لأنه يذبل من شدة الهوى كما تذبل العشقة إذا قطعت .

قال شيخ إلاسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى : العشق هو المحبة المفرطة الزائدة على الحد الذي ينبغي ، والله تعالى محبته لا نهاية لها ، فليست تنتهي إلى حد لا تنبغي مجاوزته . قال هؤلاء : والعشق مذموم مطلقا لا يمدح لا في محبة الخالق ولا المخلوق ، لأنه المحبة المفرطة الزائدة على الحد المحمود ، وأيضا فإن لفظ " العشق " إنما يستعمل في العرف في محبة إلانسان لامرأة أو صبي ، لا يستعمل في محبة كمحبة إلاهل والمال والوطن والجاه ومحبة إلانبياء والصالحين ، وهو مقرون كثيرا بالفعل المحرم ، إما بمحبة امرأة أجنبية أو صبي ، يقترن به النظر المحرم ، واللمس المحرم ، وغير ذلك من إلافعال المحرمة ، وأما محبة الرجل لامرأته أو سريته محبة تخرجه عن العدل ، بحيث يفعل لأجلها ما لا يحل ، ويترك ما يجب ، كما هو الواقع كثيرا حتى يظلم ابنه من امرأته العتيقة ، لمحبته الجديدة ، وحتى يفعل من مطالبها المذمومة ما يضره في دينه ودنياه ، مثل أن يخصُّها بميراث لا تستحقه ، أو يعطي أهلها من الولاية والمال ما يتعدى به حدود الله ، أو يسرف في إلانفاق عليها ، أو يملكها من أمور محرمة تضره في دينه ودنياه ، وهذا في عشق من يباح له وطؤها ، فكيف عشق إلاجنبية ، والذكران من العالمين ؟ ففيه من الفساد ما لا يُحصيه إلا رب العباد ، وهو من إلامراض التي تفسد دين صاحبها وعرضه ، ثم قد تفسد عقله ثم جسمه .

وقال ابن القيم ــ بتصرف ــ : العشق : مرض من أمراض القلب مخالف لسائر إلامراض في ذاته وأسبابه وعلاجه وإذا تمكن واستحكم عز على إلاطباء دواؤه وأعيا العليل داؤه ، والعشق حركة قلب فارغ ، ومتى صادف النظر وإلاستحسان والفكر قلبا خاليا تمكن منه ، مباديه سهلة حلوة وأوسطه هم وشغل قلب وسقم وآخره عطب وقتل إن لم يتداركه عناية من الله ، والقلب هو مضغة الجسد الذي إذا صلحت صلح الجسد كله بصلاحها ، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ، وإذا فسد القلب ، فسدت إلارادات وإلاقوال وإلاعمال وفسد ثغر التوحيد " . راجع زاد المعاد والداء والدواء .

وقال رحمه الله في روضة المحبين : فإن قيل فهل يتوقف على الطمع في الوصول إلى المحبوب أم لا قيل الناس في هذا على أقسام منهم من يعشق الجمال المطلق فقلبه معلق به إن استقلت ركائبه وإن حلت مضاربه وهذا لا يتوقف عشقه على الطمع ومنهم من يعشق الجمال المقيد سواء طمعت نفسه في وصاله أم لم تطمع ومنهم من لا يعشق إلا من طمعت نفسه في وصاله فإن يئس منه لم يعلق حبه بقلبه ، وإلاقسام الثلاثة واقعة في الناس ، فإذا وجد النظر وإلاستحسان والفكر والطمع هاجت بلابله ، وأمكن من معشوقه مقاتله ، واستحكم داؤه ، وعجز عن إلاطباء دواؤه :

تالله ما أسَر الهوى من عاشق ... إلا وعزَّ على النفوس فكاكه

ـــــــــ{ تعريف الحكماء للعشق }ـــــــــ

قال ابن القيم في زاد المعاد : هذا مرض من أمراض القلب ، مخالف لسائر إلامراض في ذاته ، وأسبابه ، وعلاجه ، وإذا تمكن واستحكم ، عز على إلاطباء دواؤه ، وأعيا العليل داؤه ، وإنما حكاه الله سبحانه في كتابه عن طائفتين من الناس ، من النساء ، وعشاق الصبيان المردان، فحكاه عن امرأة العزيز في شأن يوسف وحكاه عن قوم لوط فقال تعالى إخبارا عنهم لما جاءت الملائكة لوطا : { وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70) قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) } سورة الحجر.

وقال بعض الحكماء : العشق جنون ، فالعشق ألوان كما الجنون ألوان .

وقال القاضى أبو بكر : قرأت في بعض كتب الحكماء : العشق نوع والمحبة جنس له ، كما أن الشوق جنس والمحبة نوع منه ، إلا ترى أن كل محبة شوق ، وليس كل شوق محبة ، كما أن كل عشق محبة ، وليس كل محبة عشقا ، وقد نرى العاشق يتلف نفسه من شدة ما يلقى من برح العشق الفادح .

وروى أن حكيما ذ ُكر عنده العشق فقال : دق عن إلاوهام مسلكه ، وأخفي عن إلابصار موضعه ، وحادت العقول عن كيفية تمكنه ، غير أن ابتداء حركته وعظم سلطانه من القلب ، ثم يتغشى على سائر إلاعضاء ، فتبدي الرعدة في إلاطراف ، والصفرة في إلالوان ، واللجلجة في الكلام ،والضعف في الرأي ، والذلل والعثار ، حتى ينسب صاحبه إلى الجنون .

وقال الشعبي : المشغوف : المحب ، والمشغوف : المجنون .

وقال القاضى أبو بكر : والمشغوف هو العاشق الهائم ، إذا كان العشق يؤدي إلى الجنون وزوال العقل .

ــــــــ{ تلازم العشق والشرك }ـــــــــ

اعلم رحمني الله وإياك أن مفسدة العشق مفسدة عظيمة ، فالعاشق يتَّبع هواه ، قال الله تعالى : { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) } سورة القصص ، واتباع الهوى دليل الخلود إلى إلارض ، قال الله تعالى : { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى إلارْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) } سورة إلاعراف ، ومن أخلد إلى إلارض ، اتعب نفسه خلف شهواتها وملذاتها ، ولا أرى في هذا الخلود أفسد من الغناء ، فإن العاشق يتتبع الشئ الذي يجعله هائما بمعشوقه ، والغناء صوت الشيطان ومزماره ، ففيه من المفاسد مايجعل الفاسد يتجرأ على الله بمفسدته ، فيتمايل لها ، ويتراقص بها ، ويأخذه من الوجد ما يأخذه حتى يخرج بحركاته وسكناته وكلماته عن كونه عبدا لله . والعجب كل العجب أن يجعلها هؤلاء الفجرة دينا ، وينسبون زيغهم وضلالهم ، لمن قال الله فيه : { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إلا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) } سورة النجم ، فيقولون أنه صلى الله عليه وسلم تواجد حتى سقطت بردته صلى الله عليه وسلم لما سمع منشدا ينشد أبياتا من الشعر تقول :

قد لسعت حية الهوى كبدي ... فلا طبيب لها ولا راقي

إلا الطبيب الذي شغفـت بـه ... فعنده رقـــيتي وترياقي

قال شيخ إلاسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى : فإنه كذب باتفاق أهل العلم بالحديث ، وأكذب منه ما يرويه بعضهم : { أنه مزق ثوبه وأن جبريل أخذ قطعة منه فعلقها على العرش } فهذا وأمثاله مما يعرف أهل العلم والمعرفة برسول الله صلى الله عليه وسلم أنه من أظهر إلاحاديث كذبا عليه صلى الله عليه وسلم .

قال ابن القيم في كتابه إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان ــ بتصرف ــ : أن قرآن الشيطان لا يجتمع هو وقرآن الرحمن في قلب أبدا وأيضا فإن أساس النفاق : أن يخالف الظاهر الباطن وصاحب الغناء بين أمرين : إلاول : إما أن يتهتك فيكون فاجرا . الثانى : أو يظهر النسك فيكون منافقا . فإنه يُظهر الرغبة في الله والدار إلاخرة ، وقلبه يُغلي بالشهوات ومحبة ما يَكرهه الله ورسوله من أصوات المعازف وإلات اللهو وما يدعو إليه الغناء ويهيجه ، فقلبه بذلك معمور ، وهو من محبة ما يحبه الله ورسوله وكراهة ما يكرهه قفر ، وهذا محض النفاق .

وإن في عشق الصور المحرمة نوع تعـبُّدٍ لها ، بل هو من أعلى أنواع التعبد ، ولا سيما إذا استولى على القلب ، وتمكن منه صار تتيُّما ، والتتيُّم ، التعبد ، فيصير العاشق عابدا لمعشوقه ، وكثيرا ما يغلب حبه وذكره ، والشوق إليه ، والسعي في مرضاته وإيثار محابه على حب الله وذكره والسعي في مرضاته ، بل كثيرا ما يذهب ذلك من قلب العاشق بالكلية ، ويصير متعلقا بمعشوقه من الصور ، كما هو مُشاهد ، فيصير المعشوق هو إلههٌ من دون الله عز وجل ، يُقدِّم رضاه وحبه على رضى الله وحبه ، ويتقرب إليه ما لا يتقرب إلى الله ، وينفق في مرضاته ما لا ينفقه في مرضاة الله ، ويتجنب من سخطه ما لا يتجنب من سخط الله تعالى ، فيصير آثر عنده من ربه : حُبا وخضوعا وذلا وسمعا وطاعة . ولهذا كان العشق والشرك متلازمين ، وإنما حكى الله سبحانه العشق عن المشركين من قوم لوط ، وعن امرأة العزيز ، وكانت إذ ذاك مشركة ، فكلما قوىَ شرك العبد بُلىَ بعشق الصور ، وكلما قوى توحيده صُرفَ ذلك عنه ، والزنا واللواطة كمال لذتِهما ، إنما يكون مع العشق ، ولا يخلو صاحبهما منه ، وإنما لتنقله من محل إلى محل ، لا يبقى عشقه مقصورا على محل واحد ، بل ينقسم على سهامِ كثيرةِ لكل محبوب نصيب من تألهه وتعبده ، فليس في الذنوب أفسد للقلب والدِّين من هاتين الفاحشتين ، ولهما خاصية في تبعيد القلب من الله ، فإنهما من أعظم الخبائث ، فإذا انصبغ القلب بهما ، بَعُدَ ممن هو طيب لا يصعد إليه إلا طيب ، وكلما ازداد خبثا ازداد من الله بعدا، ولهذا قال المسيح فيما رواه إلامام أحمد في كتاب الزهد : " لا يكون البطَّالون من الحكماء ، ولا يلج الزناة ملكوت السماء " . ولما كانت هذه حال الزنا ، كان قريبا للشرك ، في كتاب الله تعالى قال الله تعالى :{ الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3) } سورة النور .

فالعشق من موجبات الشرك ، لأن العشق يبعد العاشق عن ربه ، فيقترب الشيطان بشرَكه وحبائله منه ، وكلما كان العبد أقرب إلى الشرك وأبعد من إلاخلاص ، كانت محبته بعشق الصور أشد ، وكلما كان العبد أكثر إخلاصا وأشد توحيدا لله ، كان أبعد من عشق الصور ، ولهذا أصاب امرأة العزيز ما أصابها من العشق لشركها ، ونجا منه يوسف الصديق عليه السلام بإخلاصه لله ، قال الله تعالى : { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) } سورة يوسف. فالسوء : العشق ، والفحشاء : الزنا ، فالمُخلص : قد خلُص حبه لله ، فخلَّصه الله من فتنة عشق النساء والغلمان ، والمشرك : علَّق قلبه بغير الله ، فلم يُخلص توحيده وحبه لله عز وجل ، فتركه ربه لنفسه ، فتلقفه شيطانه ، ليُعبِّده لغير الله ، وهو سبحانه وبحمده أغنى الشركاء عن الشرك كما قال في الحديث القدسى كما في سنن ابن ماجة بسند صحيح من حديث أبي هريرة رضى الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : قال الله عز وجل : { أنا أغنى الشركاء عن الشرك ، فمن عمل لي عملا أشرك فيه غيري فأنا منه بريء وهو للذي أشرك } .

ـــــ{ عـِلـَّة ُالعشق }ـــــــ

قال ابن القيم في زاد المعاد : والعشق مركب من أمرين استحسان للمعشوق وطمع في الوصول إليه فمتى انتفي أحدهما انتفي العشق وقد أعيت علة العشق على كثير من العقلاء وتكلم فيها بعضهم بكلام يرغب عن ذكره إلى الصواب . فنقول قد استقرت حكمة الله - عز وجل - في خلقه وأمره على وقوع التناسب والتآلف بين إلاشباه وانجذاب الشيء إلى موافقه ومجانسه بالطبع وهروبه من مخالفه ونفرته عنه بالطبع فسر التمازج وإلاتصال في العالم العلوي والسفلي إنما هو التناسب والتشاكل والتوافق وسر التباين وإلانفصال إنما هو بعدم التشاكل والتناسب وعلى ذلك قام الخلق وإلامر فالمثل إلى مثله مائل وإليه صائر والضد عن ضده هارب وعنه نافر وقد قال تعالى : { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا (189) } سورة إلاعراف 189 ، فجعل سبحانه علة سكون الرجل إلى امرأته كونها من جنسه وجوهره فعلة السكون المذكور - وهو الحب - كونها منه فدل على أن العلة ليست بحسن الصورة ولا الموافقة في القصد وإلارادة ولا في الخلق والهدي وإن كانت هذه أيضا من أسباب السكون والمحبة . وقد ثبت في " الصحيح " عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إلارواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف وفي " مسند إلامام أحمد " وغيره في سبب هذا الحديث أن امرأة بمكة كانت تضحك الناس فجاءت إلى المدينة فنزلت على امرأة تضحك الناس فقال النبي صلى الله عليه وسلم إلارواح جنود مجندة الحديث . وقد استقرت شريعته سبحانه أن حكم الشيء حكم مثله فلا تفرق شريعته بين متماثلين أبدا ولا تجمع بين متضادين ومن ظن خلاف ذلك فإما لقلة علمه بالشريعة وإما لتقصيره في معرفة التماثل وإلاختلاف وإما لنسبته إلى شريعته ما لم ينزل به سلطانا بل يكون من آراء الرجال فبحكمته وعدله ظهر خلقه وشرعه وبالعدل والميزان قام الخلق والشرع وهو التسوية بين المتماثلين والتفريق بين المختلفين . وهذا كما أنه ثابت في الدنيا فهو كذلك يوم القيامة . فال تعالى : { احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) } سورة الصافات . قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وبعده إلامام أحمد رحمه الله أزواجهم أشباههم ونظراؤهم وقال تعالى : { وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) } سورة التكوير . أي قرن كل صاحب عمل بشكله ونظيره فقرن بين المتحابين في الله في الجنة وقرن بين المتحابين في طاعة الشيطان في الجحيم فالمرء مع من أحب شاء أو أبى وفي " مستدرك الحاكم " وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يحب المرء قوما إلا حشر معهم .

ــــــــ{ مذلة العشاق }ـــــــ

اعلم رحمني الله وإياك أن للعشق مذلة عظيمة ، لأن العاشق لايملك أمره ، ولايتحكم في تصرفه ، فيظهر حزينا ولا يعرف حزنه ، مهموما ولا يُعرف همُّه ، مُرهقا لا يُعرف رهقه ، ثم مايلبث أن يظهر عليه أمره ، فأقل مايوصف به ، أنه مجنون ، لأنه على أقل إلامور وضع نفسه في يد غيره .

قال ابن القيم في كتابه الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي ــ بتصرف ــ : والعشاق ثلاثة أقسام :

إلاول : من يعشق الجمال المطلق .

الثاني : من يعشق الجمال المقيد ، سواء طمع بوصاله أو لم يطمع .

الثالث : من لا يعشق إلا من طمع لوصاله ، وبين هذه إلانواع الثلاثة تفاوت في القوة والضعف . فعاشق الجمال المطلق يهيم قلبه في كل وادِ ، ولهُ في كل صورة جميله مراد . وحاله كما قيل :

فيوما بحـــزوى ويوم بالعـقـيق ... وبالعذيب يوما ويوما بالخليصاء

فهذا عشقه أوسع ، ولكنه غير ثابت ، كثير التنقل ، يهيم بهذه ، ثم يعشق غيرها ، والعاشقة كذلك .

وعاشق الجمال المقيد أثبت على معشوقه وأدوم محبة له ، ومحبته أقوى من محبة عاشق الجمال المطلق ، ولكن يُضعفها عدم الطمع في الوصال . وعاشق الجمال الذي يطمع في وصاله : أعقل العشَّاق وأعرفهم ، وحبُّه أقوى لأن طمعه في وصال معشوقه يمده ويقويه .

قال ابن مناذر البصري : العشَّاق فيما مضى كانوا أعف أبصارا وفروجا من أهل النسك في زماننا هذا .

قال إلاصمعي : ذكر بعض الفلاسفة أن أول عشق كان ببلاد الهند في الزمن إلاول : أن البرهمند السموأل عشق سنبة ابنة الساحرة ، فاستعمل الوهم في أمها ، فصارت صخرة على ساحل البحر ، فظفر بسنبة . فقال الربعي : معنى الوهم : يقولون : إن في الهند من إذا توهم بشيء صار ما يتوهمه . قال : فأدخلها عادا حذرا عليها ، فكان معها فيه . وقال : قال إلاصمعي : وترجم هذين البيتين بعض البراجمة فوجدها : لا تطلعين في قمر إني أخاف أن يغلط أهل السفر أو طلعت شمس فلا تطلعي أخاف أن تغشى عيون البشر .

وذكر ابن حجر في لسان الميزان ــ بتصرف ــ : عن حبيب بن أبي إلاشرس هو حبيب بن حسان وهو حبيب بن أبي هلال : قال : له ــ أحاديث ــ عن سعيد بن جبير وغيره. قال أحمد والنسائي : متروك ، روى عنه مروان بن معاوية وإسماعيل بن جعفر ، وقال ابن حبان: منكر الحديث جداً ، وكان قد عشق نصرانية ، فقيل: إنه تنصر وتزوج بها ، فأما اختلافه إلى البيعة من أجلها فصحيح ، وقال ابن المثنى: ما سمعت يحيى ولا عبد الرحمن حدثا عن سفيان عن حبيب بن حسان بن أبي إلاشرس شيئاً قط ، وروى عباس عن يحيى بن معين: حبيب بن حسان ليس بثقة كانت له جاريتان نصرانيتان فكان يذهب معهما إلى البيعة . وقال عمرو بن علي : سمعت عبد الله بن سلمة إلافطس يقول: تزوج ابن أبي إلاشرس جارية نصرانية وكان يعشقها فتنصر .

وقال إلاصمعي : قيل لأعرابي : ما كنت صانعا لو ظفرت بمن تهوى ؟ قال : كنت أمتع عيني من وجهها ، وقلبي من حديثها ، وأستر منها ما لا يحبه الله ولا يرضى كشفه إلا عند حله ، قيل : فإن خفت إلا تجتمعا بعد ذلك ؟ قال : أحل قلبي إلى حبها ، ولا أصبر بقبيح ذلك الفعل إلى نقض عهدها . قال : وقيل لآخر وقد زوجت عشيقته من ابن عم لها ، وأهلها على إهدائها إليه : أيسرك أن تظفر بها الليلة ؟ قال : نعم ، والذي أمتعني بحبها وأشقاني بطلبها ، قيل : فما كنت صانعا بها ؟ قال : كنت أطيع الحب في لثامها ، وأعصي الشيطان في إثمها ، ولا أفسد عشق سنين بما يبقى ذميما عاره ، وينشر قبيح أخباره في ساعة تنفد لذتها ، وتبقى تبعتها ، إني إذا لئيم لم يغدني أصل كريم .

وقال الضبي : عشق كامل بن الوضين أسماء بنت عبد الله بن هشام ابنة عمه ، فلم يزل به العشق حتى صار كالشيء البالي ، فشكا أبوه إلى أبيها ما نزل به ليزوجها منه ، ولم يعلم كامل بن الوضين ، قال : وإذا سمى لتسمع كلامي ؟ قيل : نعم ، فشهق شهقة وقضي مكانه ، فقيل لها : مات بغصة شجنه قالت : والله لأموتن بمثلها ، ولقد كنت على زيارته قادرة ، فمنعني منها قبح ذكر الريبة ، ومرضت ، فلما اشتد بها المرض قالت لأشفق نسائها عليها : صوري لي مثاله ؛ فإني أحب أن أزوره قبل موتي ، ففعلت ، فلما وصلت الصورة اعتنقتها وشهقت فقضيت ، فطلب أبو الفتى إلى أبيها أن يدفنها بالقرب من قبر ابنه ففعل ، وكتب على قبريهما : بنفسي هما لم يمتعا بهواهما على الدهر حتى غيبا في المقابر أقاما على غير التزاور برهة ، فلما أصيبا قربا بالتزاور فيا حسن قبر زار قبرا يحبه ويا زورة جاءت بريب المقادر .

وقال أحمد بن معاوية بن بكر الباهلي : حدثني رجل من عذرة قال : كان فينا فتى ظريف غزل ، وكان كثيرا يتحدث إلى النساء ، فهوى جارية من الحي فراسلها فأظهرت له جفوة ، فوقع مضنى مدنفا ، وظهر أمره وبينت دنفه ، فلم تزل النساء من أهله وأهلها يكلمونها حتى إجابته فصارت إليه عائدة ومسلمة ، فلما نظر إليها تحدرت عيناه بالدموع ، وأنشأ يقول : أريتك إن مرت عليك جنازتي تلوح بها أيد طوال وتسرع أما تبتغين النعش حتى تسلمي على رمس ميت في الحفيرة مودع قال : فبكت رحمة له وقالت : ما ظننت أن إلامر قد بلغ بك كل هذا ، فوالله لأساعدنك ، لأداومن على وصلك ، فهملت عيناه بالدموع وأنشأ يقول : دنت وظلال الموت بيني وبينها ومنت بوصل حين لا ينفع الوصل ثم شهق شهقة خرجت نفسه ، فوقعت عليه تلثمه وتبكي ، فرفعت عنه مغشيا عليها ، فما مكثت بعده إلا أياما حتى ماتت . راجع اعتلال القلوب للخرائطى .

ــــ{ ظلم العاشق لمعشوقه }ـــــ

اعلم رحمني الله وإياك أن العاشق لما لم ييأس من وصال معشوقه ، هام على وجهه ، ولتمنى أن يصله بأى وسيلة ، فيستعين على وصال معشوقه بشياطين إلانس والجن ، إما بمن يكون رسول شرٍّ بينهما ، وإما بسحر وغيره ، والسحر شرك ، والظلم كفر السحر ، فربما فعله وهو راض به ، فيكون بذلك راضيا بالكفر ، وربما استدرجه له شيطان إلانس الذي استعان به ، ففعله وهو غير راض عنه ، وفعله على كراهة منه ، فيكون ظالما على أبواب الكفر ، حائم حوله ، ومن حام أوشك أن يقع ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .

وبالعشق يظلم كلا من العاشق والمعشوق صاحبه ، بمعاونته على الفاحشة ، وفي ظلم كل منهما لنفسه الكثير ، فكل من العاشق والمعشوق ظالم لنفسه ولصاحبه ، بل إن ظلمهما تعدى لغيرهما ، فكلاهما يعين صاحبه على إلاثم والعدوان ، وهذا ظلم للمجتمع الذي يعيشون فيه ، لأنهما يشتركان في قبح يغير السلوك العام للمجتمع ، وجرت العادة بين العشاق على هذا ، فقد شغل المجتمع في الماضى وما زال بذكر العشاق ، ومواقفهم ، وأقوالهم ، وأشعارهم ، فلما طال الزمان ، استحدث العصاة سِيراً ، وكتبوا أساطير لم تحدث ، فهام الناس لها ، وأصبحوا يقلدونها ، ويتتبعون آثارها ، فيأخذها الناس عادة ، وربما أخذوها حقا ، واقتدوا بأسلافهم فيها .

وإليك بعضا من تأصيل ذلك : فقد ورد في فهرس شعراء الموسوعة الشعرية ــ بتصرف ــ أن ليلى العامرية صاحبة ــ المجنون ــ قيس بن الملوح ، وفي وجودهما شك كبير قيل في خبرها : مرَّ بها قيس وهي مع بعض النسوة فتحابا وكانت مغرمة بأحاديث الناس وإلاشعار، وهو من الرواة الحفاظ للأخبار، وكثر تلاقيهما وهما من قبيلة واحدة، ثم حُجبت عنه، وامتنع أبوها عن زواجها به ، لاشتهار حبهما وأشعاره فيها، وأكرهت على الزواج بشخص آخر ويروى لها شعر منه :

كلانا مظهر للناس بغضـــــــا وكل عند صاحــــبه مكـــــين

وكيف يفوت هذا الناس شيء وما في القلب تظهره العيـون

وقيس بن الملوح بن مزاحم العامري. شاعر غزل، من المتيمين، من أهل نجد . لم يكن مجنوناً وإنما لقب بذلك لهيامه في حب ليلى بنت سعد التي نشأ معها إلى أن كبرت وحجبها أبوها، فهام على وجهه ينشد إلاشعار ويأنس بالوحوش، فيرى حيناً في الشام وحيناً في نجد وحيناً في الحجاز، إلى أن وجد ملقى بين أحجار وهو ميت فحمل إلى أهله.

وقيل في ابتداء حبهما: أنهما نشئا صغيرين يرعيان الغنم، وحجبت عنه لما كبرت .

والقائلون بأن قصتهما غير مخترعة، يذكرون أن (المجنون) مات سنة 68ه ويقول بعضهم: توفيت ليلى قبله .

ومن أشعار قيس التى تظهر انفكاكه من توحيد رب العالمين :

تزودت من ليلى بتكليم ساعة فما زاد إلا ضعف ما بي كلامها

فما حب الديار شغفن قلـبى ولكن حـب من سكن الديارا

وقال :

خليلي لا والله ، لا أملك الذي قضى الله في ليلي ولا ما قضي ليا

قضاها لغيري وابتـلانى بحبـها فهـــــلا بشئ غــير ليــلى ابتـلانيا

ومجمل إلامر أن الكتَّاب وضعوا من هواهم أساطير أدخلوها في سيرة العاشقين حتى ظهرا عند الناس قصة وأسطورة يتغنى الناس بها ويولهون لولهها ، ويتغزَّلون بأشعارها ، والعياذ بالله .

ـــــ{ علاج العشق }ـــــ

يذكر في علاج العشق وسائل جيدة إن انتفع بها العاشق ، مدارها على الوصل ، والفصل . والوصل : الزواج ، والفصل : اليأس من الزواج ، فيعرف أمره ومصيره ، ويملك زمام نفسه فينسيها ماكان من عشق ووله . واللجوء إلى الله عز وجل هو إلاصل والمُعين على هذا .

أولا : العلاج بالوصل : لما كان العشق مرضا من إلامراض ـــ وإن كان عضإلا ــ إلا أنه قابلٌ للعلاج ، وإلاصل في علاج العشق كما قلنا الزواج ، للحديث الصحيح الذي عند الطبرانى وابن ماجة وغيرهما بسند صحيح من حديث ابن عباس رضى الله عنهما قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن عندنا يتيمة وقد خطبها رجل مُعْدم ورجل موسِر وهي تهوى المُعْدم ونحن نهوى الموسر فقال صلى الله عليه وسلم : { لم يُر للمتحابين مثل النكاح } .

قال ابن القيم في زاد المعاد : وهذا هو المعنى الذي أشار إليه سبحانه عقيب إحلال النساء حرائرهن وإمائهن عند الحاجة بقوله : { يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ إلانْسَانُ ضَعِيفًا (28) } سورة النساء . فذكر تخفيفه في هذا الموضع وإخباره عن ضعف إلانسان يدل على ضعفه عن احتمال هذه الشهوة ، وأنه - سبحانه - خفف عنه أمرها بما أباحه له من أطايب النساء مثنى وثلاث ورباع ، وأباح له ما شاء مما ملكت يمينه ، ثم أباح له أن يتزوج بإلاماء إن احتاج .

فأراد الله جل وعلا أن ييسر على إلامة إلاسلامية فجعل الزواج علاجا لهذه الشهوة وتخفيفا عن هذا المخلوق الضعيف ورحمة به ، شرط أن يكون للعاشق سبيل إلى وصل معشوقه شرعاً وقدرا ، فقد قال الله عز وجل : { وَأَنْكِحُوا إلايَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32) } . سورة النور

وفي الحديث المتفق عليه عن ابن مسعود رضى الله عنه مرفوعا : { يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ، فإنه أغض للبصر ، وأحصن للفرج ، ومن لم يستطع ، فعليه بالصوم ، فإنه له وجاء } .

الثانى : العلاج بالفصل

فليعلم العاشق أنه إن كان لاسبيل له لوصال معشوقه قدرا وشرعا ، أو أن إلامر ممتنع عليه فعليه أن يعزم على الفصل ، ويُيَئِّس نفسه من الوصل ، ويحي شرف الرجولة في نفسه ، ويُحكِّم شرع الله في أمره ، وليعلم أن النفس إن يئست من الشئ استراحت منه ، وإن استراحت فلن تلتفت إليه مرة أخرى ، فإن التفات القلب بما هو بعيد المنال عنه درب من الجنون والسَّفه .

قال الله تعالى : { وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آَتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34) } . سورة النور

وقوله تعالى : { وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا } أي : وليْطلب العِفَّة عن الزنا والحرام وإتيان ما حرّم الله عليهم من الفواحش ، مَن لايجد ماينكح به من صداق ونفقة . حتى يغنيهم الله من سعة فضله ، ويوسِّع عليهم من رزقه.

والشاهد في حديث ابن مسعود المتقدم : { ومن لم يستطع ، فعليه بالصوم ، فإنه له وجاء } .ومن الوقاية والوجاء أيضا غض البصر ففيه الغنى والورع ، وكذلك عدم إبداء الزينة ، قال الله تعالى : { وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي إلارْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31) }

قوله عز وجل : { وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ } عما لا يحل لهن ، { وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنّ } عمن لا يحل لهن. وقيل أيضا : { يَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنّ } . يعني : يسترنها حتى لا يراها أحد .

وعند مسلم من حديث أبي سعيد الخدري، عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا المرأة إلى عورة المرأة، ولا يفضي الرجل إلى الرجل في ثوب واحد، ولا تفضي المرأة إلى المرأة في ثوب واحد } .

وإن رأى العاشق في نفسه زيغ بين تارة وأخرى ، ووجد نفسه أمارة بالسوء ، فليتق الله ربه ويخشاه ، ويعلم أن إلامر لذة ساعة ثم تزول ، فإن العاقل متى وازن بين لذة سريعة الزوال ، وذنب يُغضب رب العباد ، لنجَّى نفسه من وحلها ودركها ، نقى قلبه ، وذهب إلى ربه بقلب سليم .قال شيخ إلاسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى ــ بتصرف ــ : والله سبحانه قد أمر في كتابه بغض البصر ، وهو نوعان : غض البصر عن العورة ، وغضها عن محل الشهوة .

فإلاول : كغض الرجل بصره عن عورة غيره ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : { لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل ، ولا تنظر المرأة إلى عورة المرأة } ، ويجب على إلانسان أن يستر عورته ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاوية بن حيدة : { احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك } . قلت : فإذا كان أحدنا مع قومه ؟ قال : { إن استطعت أن لا يرينها أحد فلا يرينها } .قلت : فإذا كان أحدنا خاليا ؟ قال : { فالله أحق أن يستحيي منه الناس } ويجوز أن يكشف بقدر الحاجة كما يكشف عند التخلي ، وكذلك إذا اغتسل الرجل وحده بجنب ما يستره ، فله أن يغتسل عريانا كما اغتسل موسى عريانا ، وأيوب ، وكما في اغتساله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح ، واغتساله في حديث ميمونة ،

وأما النوع الثاني من النظر : كالنظر إلى الزينة الباطنة من المرأة إلاجنبية ، فهذا أشد من إلاول ، كما أن الخمر أشد من الميتة والدم ، ولحم الخنزير ، وعلى صاحبها الحد . فتلك المحرمات إذا تناولها غير مستحل لها كان التعزير ؛ لأن هذه المحرمات لا تشتهيها النفوس كما تشتهي الخمر ، وكذلك النظر إلى عورة الرجل لا يشتهي كما يشتهي النظر إلى النساء ونحوهن ، وكذلك النظر إلى إلامرد بشهوة هو من هذا الباب ، وقد اتفق العلماء على تحريم ذلك ، كما اتفقوا على تحريم النظر إلى إلاجنبية وذوات المحارم لشهوة . ولهذا يقال : إن غض البصر عن الصورة التي نهي عن النظر إليها كالمرأة ، وإلامرد الحسن يورث ذلك ثلاث فوائد جليلة القدر :

إحداها : حلاوة إلايمان ولذته التي هي أحلى وأطيب مما تركه الله ، فإن من ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه ، والنفس تحب النظر إلى هذه الصور لا سيما نفوس أهل الرياضة والصفا ، فإنه يبقى فيها رقة تجتذب بسببها إلى الصور ، حتى تبقى تجذب أحدهم وتصرعه كما يصرعه السبع ، ولهذا قال بعض التابعين : ما أنا على الشاب التائب من سبع يجلس إليه بأخوف عليه من حَدثٍ جميل يجلس إليه ، وقال بعضهم : اتقوا النظر إلى أولاد الملوك فإن لهم فتنة كفتنة العذارى . وما زال أئمة العلم والدين : كشيوخ الهدى ، وشيوخ الطريق ، يوصون بترك صحبة إلاحداث حتى يروى عن فتح الموصلي أنه قال : صحبت ثلاثين من إلابدال ، كلهم يوصيني عند فراقه بترك صحبة إلاحداث ، وقال بعضهم : ما سقط عبد من عين الله إلا بصحبة هؤلاء إلانتان . ثم النظر يؤكد المحبة ، فيكون علاقة لتعلق القلب بالمحبوب ، ثم صبابة لانصباب القلب إليه ، ثم غراما للزومه للقلب كالغريم الملازم لغريمه ، ثم عشقا إلى أن يصير تتيما ، والمتيم المعبد ، وتيم الله عبد الله ، فيبقى القلب عبدا لمن لا يصلح أن يكون أخا ، بل ولا خادما ، وهذا إنما يبتلى به أهل إلاعراض عن إلاخلاص لله ، كما قال تعالى في حق يوسف : { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)} سورة يوسف .


وأما الفائدة الثانية : في غض البصر فهو : أنه يورث نور القلب ، والفراسة . قال تعالى عن قوم لوط : { لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) } سورة الحجر . فالتعلق في الصور يوجب فساد العقل ، وعمى البصيرة ، وسكر القلب بل جنونه كما قيل :

سكران سكر هـوى وسكر مدامة فمتى إفاقة من به سكران ؟

وقيل :

قالوا جننت بمن تهوى فقلت لهم العشق أعظم مما بالمجانين

وقيل :

العشق لا يستفيق الدهرصاحبه وإنما يصرع المجنون في الحين

وذكر سبحانه آية النور عقيب آيات غض البصر فقال : { اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَإلارْضِ (35) } سورة النور .

وكان شاه بن شجاع الكرماني لا تخطئ له فراسة ، وكان يقول : من عمر ظاهره باتباع السنة ، وباطنه بدوام المراقبة ، وغض بصره عن المحارم ، وكف نفسه عن الشهوات وذكر خصلة خامسة إنما هو أكل الحلال ولم تخطئ له فراسة .


والفائدة الثالثة : قوة القلب ، وثباته ، وشجاعته ، فيجعل الله سلطان النصرة مع سلطان الحجة ، وفي إلاثر : الذي يخالف هواه يفرق الشيطان من ظله ، ولهذا يوجد في المتبع لهواه من الذل ، ذل النفس وضعفها ومهانتها ، ما جعله الله لمن عصاه ، فإن الله جعل العزة لمن أطاعه ، والذلة لمن عصاه . قال تعالى : { يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ إلاعَزُّ مِنْهَا إلاذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8) } سورة المنافقون ، وقال تعالى : { وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ إلاعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) } آل عمران ، ولهذا كان في كلام الشيوخ : الناس يطلبون العز من أبواب الملوك ، ولا يجدونه إلا في طاعة الله . وكان الحسن البصري يقول : وإن هملجت بهم البراذين ، وطقطقت بهم البغال ، فإن ذل المعصية في رقابهم ، يأبى الله إلا أن يذل من عصاه ، ومن أطاع الله فقد وإلاه فيما أطاعه فيه ، ومن عصاه ففيه قسط من فعل من عاداه بمعاصيه . وفي دعاء القنوت : { إنه لا يذل من واليت ولا يعز من عاديت } .


قال ابن القيم في زاد المعاد : فعلاج العبد ونجاته موقوف على اجتنابه فليشعر نفسه أنه معدوم ممتنع لا سبيل له إليه وأنه بمنزلة سائر المحإلات فإن لم تجبه النفس إلامارة فليتركه لأحد أمرين إما خشية وإما فوات محبوب هو أحب إليه وأنفع له وخير له منه وأدوم لذة وسرورا فإن العاقل متى وازن بين نيل محبوب سريع الزوال بفوات محبوب أعظم منه وأدوم وأنفع وألذ أو بالعكس ظهر له التفاوت فلا تبع لذة إلابد التي لا خطر لها بلذة ساعة تنقلب إلاما وحقيقتها أنها أحلام نائم أو خيال لا ثبات له فتذهب اللذة وتبقى التبعة وتزول الشهوة وتبقى الشقوة .


وسئل شيخ إلاسلام ابن تيمية كما في الفتاوى الكبرى : فيمن أصابه سهام إبليس المسمومة ؟ فأجاب رحمه الله : من أصابه جرح مسموم فعليه مما يخرج السم ويبرئ الجرح بالترياق والمرهم وذلك بأمور منها :

إلاول : أن يتزوج أو يتسرى ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إذا نظر أحدكم إلى محاسن امرأة فليأت أهله فإنما معها مثل ما معها } . وهذا مما ينقص الشهوة ويضعف العشق .

الثاني : أن يداوم على الصلوات الخمس والدعاء والتضرع وقت السحر وتكون صلاته بحضور قلب وخشوع وليكثر من الدعاء بقوله : يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك .يا مصرف القلوب صرف قلبي إلى طاعتك وطاعة رسولك ، فإنه متى أدمن الدعاء والتضرع لله صرف قلبه عن ذلك كما قال تعالى : { كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين } .

الثالث : أن يبعد عن سكن هذا الشخص ، وإلاجتماع بمن يجتمع به ، بحيث لا يسمع له خبرا ولا يقع له على عين ولا أثر ، فإن البعد جفي .ومتى قل الذكر ضعف إلاثر في القلب ، فيفعل هذه إلامور وليطالع بما تجدد له من إلاحوال والله سبحانه أعلم .

فصــــل : إلاخلاص دواء للعشق

قال ابن القيم في زاد المعاد : وعشق الصور إنما تبتلى به القلوب الفارغة من محبة الله تعالى المعرضة عنه المتعوضة بغيره عنه فإذا امتلأ القلب من محبة الله والشوق إلى لقائه دفع ذلك عنه مرض عشق الصور ولهذا قال تعالى في حق يوسف : { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) } سورة يوسف ، فدل على أن إلاخلاص سبب لدفع العشق وما يترتب عليه من السوء والفحشاء التي هي ثمرته ونتيجته فصرف المسبب صرف لسببه ولهذا قال بعض السلف : العشق : حركة قلب فارغ يعني فارغا مما سوى معشوقه . قال تعالى : { وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) } [سورة القصص] أي فارغا من كل شيء إلا من موسى لفرط محبتها له وتعلق قلبها به .

وقال شيخ إلاسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى ــ بتصرف ــ : كلما قويت محبة العبد لمولاه صغرت عنده المحبوبات وقلت ، وكلما ضعفت كثرت محبوباته وانتشرت . وكذا الخوف والرجاء وما أشبه ذلك ، فإن كمل خوف العبد من ربه لم يخف شيئا سواه ، قال الله تعالى : { الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَإلاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إلا اللَّهَ وَكَفي بِاللَّهِ حَسِيبًا (39)} سورة إلاحزاب ، وإذا نقص خوفه خاف من المخلوق ، وعلى قدر نقص الخوف وزيادته يكون الخوف ، كما ذكرنا في المحبة وكذا الرجاء وغيره . فهذا هو الشرك الخفي الذي لا يكاد أحد أن يسلم منه إلا من عَصَمهُ الله تعالى . وقد روي أن الشرك في هذه إلامة أخفي من دبيب النمل . وطريق التخلص من هذه إلافات كلها إلاخلاص لله عز وجل قال الله تعالى { فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110) } سورة الكهف ، ولا يحصل إلاخلاص إلا بعد الزهد ولا زهد إلا بتقوى والتقوى متابعة إلامر والنهي .


ذكر توبة العشاق

سئل عبد الله بن المبارك عن بدء زهده قال: كنت يوما مع إخواني في بستان لنا، وذلك حين حملت الثمار من ألوان الفواكه، فأكلنا وشربنا حتى الليل فنمنا، وكنت مولعا بضرب العود والطنبور، فقمت في بعض الليل فضربت بصوت يقال له راشين السحر، وأراد سنان يغني، وطائر يصيح فوق رأسي على شجرة، والعود بيدي لا يجيبني إلى ما أريد، وإذا به ينطق كما ينطق إلانسان - يعني العود الذي بيده - ويقول: (ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق) قلت: بلى والله ! وكسرت العود، وصرفت من كان عندي، فكان هذا أول زهدي وتشميري.

وسبب توبة الفضيل بن عياض : أنه عشق جارية فواعدته ليلا، فبينما هو يرتقي الجدران إليها إذ سمع قارئا يقرأ: (ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله) فرجع القهقرى ، وهو يقول: بلى والله قد آن ، فآواه الليل إلى خربة وفيها جماعه من السابلة ، وبعضهم يقول لبعض : إن فضيلا يقطع الطريق. فقال الفضيل : أواه ! أراني بالليل أسعى في معاصي الله ، قوم من المسلمين يخافونني ! اللهم إني قد تبت إليك ، وجعلت توبتي إليك جوار بيتك الحرام . راجع تهذيب الكمال للمزى .

بيان أن حديث العشق موضوع

خرج إلامام السيوطى عن عائشة رضى الله عنها وابن عباس رضى الله عنه حديثا موضوعا على رسول الله صلى الله عليه وسلم نصه : { من عشق فعف ثم مات مات شهيدا } .

وتخريج الحديث بتمامه كما عند شيخنا العلامة إلالباني في سلسلة إلاحاديث الضعيفة ( 1 / 587 ) : موضوع .

ثم قال شيخنا رحمه الله تعالى : رواه ابن حبان في " المجروحين " ( 1 / 349 ) و الخطيب في " تاريخه " ( 5 / 156، 262 ، 6 / 50 - 51 ، 71 / 298 ، 13 /0 184 ) و الثعالبي في " حديثه ( 129 / 1) و أبو بكر الكلاباذي في " مفتاح المعاني " ( 281 / 2 ) و السلفي في " الطيوريات " ( 24 / 2 ) و ابن عساكر في " تاريخ دمشق" ( 12 / 263 / 2 ) و ابن الجوزي في " مشيخته " : الشيخ الثامن و السبعون من طرق عن سويد بن سعيد الحدثاني حدثنا علي بن مسهر عن أبي يحيى القتات عن مجاهدعن ابن عباس مرفوعا . قلت : و هذا سند ضعيف و له علتان : إلاولى : ضعف أبي يحيى القتات و اسمه زاذان و قيل غير ذلك ، قال الحافظ في " التقريب " : لين الحديث . إلاخرى : ضعف سويد بن سعيد ، قال الحافظ : صدوق في نفسه إلا أنه عمي فصار يتلقن ما ليس من حديثه ، و أفحش فيه ابن معين القول . قلت : و قد تكلم فيه ابن معين من أجل هذا الحديث كما يأتي ، و اتفق إلائمة المتقدمون على تضعيف هذا الحديث ، فقال ابن الملقن في " الخلاصة " ( 54 / 2 ) : و أعله إلائمة ، قال ابن عدي و الحاكم و البيهقي و ابن طاهر و غيرهم هو أحد ماأنكر على سويد بن سعيد قال يحيى بن معين : لو كان لي فرس و رمح لكنت أغزوه .و لهذا قال الحافظ ابن حجر في " بذل الماعون " ( 45 / 2 ) :و في سنده مقال ، و ذهب بعض المتأخرين إلى تقوية الحديث بمجيئه من طريق آخر ، فقال الزركشي في " اللآليء المنثورة في إلاحاديث المشهورة " ( رقم 166 ـ نسختي) : و هذا الحديث أنكره يحيى بن معين و غيره على سويد بن سعيد ، لكن لم يتفرد به ، فقد رواه الزبير بن بكار فقال : حدثنا عبد الملك بن عبد العزيز بن الماجشون عن عبد العزيز بن أبي حازم عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره ، و هو إسناد صحيح . قال الحافظ السخاوي في " المقاصد الحسنة " : ( 420 ـ طبع الخانجي ) بعد أن ساق هذه الطريق : و ينظر هل هذه هي الطريق التي أورده الخرائطي منها ، فإن تكن هي فقد قال العراقي : في سندها نظر ، و من طريق الزبير أخرجه الديلمي في مسنده ، و لكن وقع عنده عن عبد الله بن عبد الملك بن الماجشون لا كما هنا . قلت : أما طريق الخرائطي فلم يسقها السخاوي ، و قد أوردها العلامة المحقق ابن القيم و تكلم عليها فقال في كتاب " الداء و الدواء " ( ص 353 - 354 ) : أما حديث ابن الماجشون عن عبد العزيز بن أبي حازم عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس مرفوعا ، فكذب على ابن الماجشون ، فإنه لم يحدث بهذا ، و لا حدث به عنه الزبير ابن بكار ، و إنما هذا من تركيب بعض الوضاعين ، و يا سبحان الله كيف يحتمل هذا إلاسناد مثل هذا المتن فقبح الله الوضاعين . و قد ذكره أبو الفرج بن الجوزي من حديث محمد بن جعفر بن سهل : حدثنا يعقوب بن عيسى من ولد عبد الرحمن بن عوف عن ابن أبي نجيح عن مجاهد مرفوعا ، و هذا غلط قبيح فإن محمد بن جعفر هذا هو الخرائطي ، و وفاته سنة سبع و عشرين و ثلاث مئة ، فمحال أن يدرك شيخه يعقوب ، ابن أبي نجيح و لا سيما و قد رواه في كتابه " إلاعتلال " عن يعقوب هذا عن الزبير عن عبد الملك عن عبد العزيز عن ابن أبي نجيح ، و الخرائطي هذا مشهور بالضعف في الرواية ، ذكره أبو الفرج في كتاب " الضعفاء " . قلت : أما الخرائطي فلا أعرف أحدا من المتقدمين رماه بشيء من الضعف و لهذا لم يورده الذهبي في " ميزان إلاعتدال " ، و لا استدركه عليه الحافظ ابن حجر في " لسان الميزان " ، و قد ترجمه الخطيب في تاريخه ( 2 / 139 - 140 ) ثم السمعاني في " إلانساب " ثم ابن إلاثير في " اللباب " فلم يجرحه أحد منهم ، بل ترجمه الحافظ ابن عساكر في تاريخه ( 15 / 93 / 1 - 2 ) و روى عن أبي نصر ابن ماكولا أنه قال فيه : كان من إلاعيان الثقات . فأنا في شك كبير من صحة ما ذكره أبو الفرج من ضعف الخرائطي ، بل هو ثقة حجة . والله أعلم .

ثم طبع كتاب " الضعفاء " لابن الجوزي فلم أجد فيه محمد بن جعفر الخرائطي و إنما ذكر آخرين ( 3 / 46 ـ 47 ) ليسا من طبقة الخرائطي و هما من رجال ابن أبي حاتم (3/ 2 / 222 / 1224 و 1226 ) فتبين أن الوهم من ابن القيم و الله أعلم . فلعل علة هذا إلاسناد من يعقوب بن عيسى شيخ الخرائطي ، فإنى لم أجد له ترجمة ، و من طبقته يعقوب بن عيسى بن ماهان أبو يوسف المؤدب ترجمه الخطيب ( 14 / 271 - 272 ) و لم يذكر فيه جرحا و لا تعديلا ، و لكنه لم يذكر أنه من ولد عبد الرحمن بن عوف، و الله أعلم ، و هو من شيوخ أحمد في المسند قال الحافظ في " التعجيل " قال أبو زرعة ابن شيخنا لا أعرفه ، و ذكره ابن حبان في " الثقات " ( 9 / 286 ) لكن وقع فيه يعقوب بن يوسف بن ماهان ثم وجدت الحافظ ابن حجر قد تكلم على الحديث في" التلخيص الحبير " ( 5 / 273 ) وأعله من الطريق إلاولى بنحو ما نقلناه عن " الخلاصة " و أعل الطريق الثانية من رواية يعقوب عن ابن أبي نجيح بأن يعقوب ضعفه أحمد بن حنبل ، ثم قال :ورواه الخطيب من طريق الزبير بن بكار ، و هذه الطريق غلط فيها بعض الرواة فأدخل إسنادا في إسناد ، و خلاصة القول : إن هذا الطريق ضعيف أيضا لضعف يعقوب هذا و اضطرابه في روايته فمرة يقول : عن ابن أبي نجيح عن مجاهد مرفوعا ، فيرسله ولا يذكر الواسطة بينه و بين ابن أبي نجيح ، و مرة يقول عن الزبير عن عبد الملك عن عبد العزيز عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس فيسنده و يوصله .

قال ابن القيم : و كلام حفاظ إلاسلام في إنكار هذا الحديث هو الميزان و إليهم يرجع في هذا الشأن ، و لم يصححه و لم يحسنه أحد يعول في علم الحديث عليه ، ويرجع في التصحيح إليه ، و لا من عادته التسامح و التساهل ، فإنه لم يصف نفسه له، و يكفي أن ابن طاهر الذي يتساهل في أحاديث التصوف و يروي منها الغث و السمين قد أنكره و شهد ببطلانه . نعم ابن عباس لا ينكر ذلك عنه ، و قد ذكر أبو محمد بن حزم عنه أنه سئل عن الميت عشقا فقال : قتيل الهوي لا عقل له و لا قدر ، و رفع إليه بعرفات شاب قد صار كالفرخ فقال : ما شأنه ؟ قالوا : العشق ، فجعل عامة يومه يستعيذ من العشق . فهذا نفس ما روى عنه في ذلك . و مما يوضح ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم عد الشهداء في الصحيح ، فذكر المقتول في الجهاد و الحرق و الغرق ، و المبطون ، و النفساء يقتلها ولدها ، وصاحب ذات الجنب ، و لم يذكر منهم من يقتله العشق ، و حسب قتيل العشق أن يصح له هذا إلاثر عن ابن عباس رضي الله عنهما على أنه لا يدخل الجنة حتى يصبر لله ، ويعف لله و يكتم لله ، لكن العاشق إذا صبر و عف و كتم مع قدرته على معشوقه و آثر محبته لله و خوفه و رضاه فهو من أحق من دخل تحت قوله تعالى : { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهي النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) } سورة النازعات ، و تحت قوله تعالى : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) } سورة الرحمن .


و الحديث أورده السيوطي في " الجامع الصغير " من رواية الخطيب عن عائشة و عن ابن عباس ، و هذا يوهم أن له طريقين أحدهما عن عائشة و إلاخر عن ابن عباس ، والحقيقة أنه طريق واحد ، وهم في سنده بعض الضعفاء فصيره من مسند عائشة ، و إنما هو من مسند ابن عباس كما تقدم ، فقد أخرجه الخطيب في " تاريخه " ( 12 /479) طريق أحمد بن محمد بن مسروق الطوسي : حدثنا سويد بن سعيد حدثنا علي بن مسهر عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة مرفوعا به ، و قال : رواه غير واحد عن سويد عن علي بن مسهر عن أبي يحيى القتات عن مجاهد عن ابن عباس و هو المحفوظ ، و كذا قال في " المؤتلف " أيضا كما في " اللسان " و أشار إلى أن الخطأ في هذا إلاسناد من الطوسي هذا ، قال الدارقطني : ليس بالقوي ، يأتي بالمعضلات .


قلت : فهذا إلاسناد منكر لمخالفة الطوسي لرواية الثقات الذين أسندوه عن سويد بسنده عن ابن عباس ، فلا يجوز إلاستكثار بهذا إلاسناد و التقوي به لظهور خطئه ورجوعه في الحقيقة إلى إلاسناد إلاول ، و قد قال ابن القيم في " الداء والدواء " ( ص 353 ) بعد أن ساق رواية الخطيب هذه : فهذا من أبين الخطأ ، و لا يحمل هشام عن أبيه عن عائشة مثل هذا عند من شم أدنى رائحة الحديث ، و نحن نشهد بالله أن عائشة ما حدثت بهذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قط ، و لا حدث به عروة عنها و لا حدث به هشام قط .

و خلاصة القول : أن الحديث ضعيف إلاسناد من الطريقين ، و قد أنكره العلامة ابن القيم من حيث معناه أيضا و حكم بوضعه كما رأيت ، و قد أوضح ذلك في كتابه " زادالمعاد " أحسن توضيح فقال ( 3 / 306 - 307 ) : و لا تغتر بالحديث الموضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم ساقه من الطريقين ثم قال ، فإن هذا الحديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم و لا يجوز أن يكون من كلامه ، فإن الشهادة درجة عالية عند الله مقرونة بدرجة الصديقية و لها أعمال و أحوال هي شروط في حصولها و هي نوعان عامة و خاصة ، فالخاصة الشهادة في سبيل الله و العامة خمس مذكورة في الصحيح ليس العشق واحدا منها ، وكيف يكون العشق الذي هو شرك المحبة و فراغ عن الله و تمليك القلب و الروح و الحب لغيره تنال به درجة الشهادة ! ؟ هذا من المحال ، فإن إفساد عشق الصور للقلب فوق كل إفساد بل هو خمر الروح الذي يسكرها و يصدها عن ذكر الله و حبه ، والتلذذ بمناجاته و إلانس به ، و يوجب عبودية القلب لغيره ، فإن قلب العاشق متعبد لمعشوقه بل العشق لب العبودية ، فإنها كمال الذل و الحب و الخضوع

والتعظيم فكيف يكون تعبد القلب لغير الله مما تنال به درجة أفاضل الموحدين و ساداتهم و خواص إلاولياء ! ؟ فلو كان إسناد هذا الحديث كالشمس كان غلطا ووهما ، و لا يحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لفظ العشق من حديث صحيح البتة ، ثم إن العشق منه حلال و منه حرام ، فكيف يظن بالنبي صلى الله عليه وسلم أنه يحكم على كل عاشق يكتم و يعف بأنه شهيد ! ؟ أفترى من يعشق امرأة غيره أو يعشق المردان و البغايا ينال بعشقه درجة الشهداء ! ؟ و هل هذا إلا خلاف المعلوم من دينه صلى الله عليه وسلم ؟ كيف و العشق مرض من إلامراض التي جعل الله سبحانه لها من إلادوية شرعا و قدرا ، و التداوي منه إما واجب إن كان عشقا حراما ، وإما مستحب ، و أنت إذا تأملت إلامراض و إلافات التي حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابها بالشهادة وجدتها من إلامراض التي لا علاج لها ، كالمطعون و المبطون و المجنون و الحرق و الغرق ، و منها المرأة يقتلها ولدها في بطنها ، فإن هذه بلايا من الله لا صنع للعبد فيها و لا علاج لها ، و ليست أسبابها محرمة و لا يترتب عليها من فساد القلب و تعبده لغير الله ما يترتب على العشق ، فإن لم يكف هذا في إبطال نسبة هذا الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلد أئمة الحديث العالمين به و بعلله فإنه لا يحفظ عن إمام واحد منهم قط أنه شهد له بصحة ، بل و لا بحسن ، كيف و قد أنكروا على سويد هذا الحديث و رموه لأجله بالعظائم و استحل بعضهم غزوه لأجله .


وخلاصة الكلام : أن الحديث ضعيف إلاسناد موضوع المتن كما جزم بذلك العلامة ابن القيم في المصدرين السابقين ، و كذا في رسالة " المنار " له أيضا ( ص 63 ) ومثله في " روضة المحبين " و الله أعلم .

كلام ابن القيم في حديث العشق

قال شيخنا العلامة ابن القيم : ولا يغتر بالحديث الموضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه سويد بن سعيد عن علي بن مسهر عن أبي يحيى القتات عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم . ورواه عن أبي مسهر أيضا عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم ورواه الزبير بن بكار عن عبد الملك بن عبد العزيز بن الماجشون عن عبد العزيز بن أبي حازم عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من عشق فعف فمات فهو شهيد وفي رواية من عشق وكتم وعف وصبر غفر الله له وأدخله الجنة فإن هذا الحديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يجوز أن يكون من كلامه فإن الشهادة درجة عالية عند الله مقرونة بدرجة الصديقية ولها أعمال وأحوال هي شرط في حصولها وهي نوعان عامة وخاصة فالخاصة الشهادة في سبيل الله . والعامة خمس مذكورة في " الصحيح " ليس العشق واحدا منها . وكيف يكون العشق الذي هو شرك في المحبة وفراغ القلب عن الله وتمليك القلب والروح والحب لغيره تنال به درجة الشهادة هذا من المحال فإن إفساد عشق الصور للقلب فوق كل إفساد بل هو خمر الروح الذي يسكرها ويصدها عن ذكر الله وحبه والتلذذ بمناجاته وإلانس به ويوجب عبودية القلب لغيره فإن قلب العاشق متعبد لمعشوقه بل العشق لب العبودية فإنها كمال الذل والحب والخضوع والتعظيم فكيف يكون تعبد القلب لغير الله مما تنال به درجة أفاضل الموحدين وساداتهم وخواص إلاولياء فلو كان إسناد هذا الحديث كالشمس كان غلطا ووهما ولا يحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لفظ العشق في حديث صحيح ألبتة . ثم إن العشق منه حلال ومنه حرام فكيف يظن بالنبي صلى الله عليه وسلم أنه يحكم على كل عاشق يكتم ويعف بأنه شهيد فترى من يعشق امرأة غيره أو يعشق المردان والبغايا ينال بعشقه درجة الشهداء وهل هذا إلا خلاف المعلوم من دينه صلى الله عليه وسلم بالضرورة ؟ كيف والعشق مرض من إلامراض التي جعل الله سبحانه لها إلادوية شرعا وقدرا والتداوي منه إما واجب إن كان عشقا حراما وإما مستحب . وأنت إذا تأملت إلامراض وإلافات التي حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابها بالشهادة وجدتها من إلامراض التي لا علاج لها كالمطعون والمبطون والمجنوب والغريق وموت المرأة يقتلها ولدها في بطنها فإن هذه بلايا من الله لا صنع للعبد فيها ، ولا علاج لها ، وليست أسبابها محرمة ، ولا يترتب عليها من فساد القلب وتعبده لغير الله ، وما يترتب على العشق ، فإن لم يكف هذا في إبطال نسبة الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلد أئمة الحديث العالمين به وبعلله فإنه لا يحفظ عن إمام واحد منهم قط أنه شهد له بصحة بل ولا بحسن كيف وقد أنكروا على سويد هذا الحديث ورموه لأجله بالعظائم واستحل بعضهم غزوه لأجله . قال أبو أحمد بن عدي في " كامله " : هذا الحديث أحد ما أنكر على سويد وكذلك قال البيهقي : إنه مما أنكر عليه وكذلك قال ابن طاهر في " الذخيرة " وذكره الحاكم في " تاريخ نيسابور " وقال أنا أتعجب من هذا الحديث فإنه لم يُحدَّث به عن غير سويد وهو ثقة وذكره أبو الفرج ابن الجوزي في كتاب " الموضوعات " وكان أبو بكر إلازرق يرفعه أولا عن سويد فعوتب فيه فأسقط النبي صلى الله عليه وسلم وكان لا يجاوز به ابن عباس رضي الله عنهما . ومن المصائب التي لا تحتمل جعل هذا الحديث من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم . ومن له أدنى إلمام بالحديث وعلله لا يحتمل هذا ألبتة ولا يحتمل أن يكون من حديث الماجشون عن ابن أبي حازم عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا وفي صحته موقوفا على ابن عباس نظر وقد رمى الناس سويد بن سعيد راوي هذا الحديث بالعظائم وأنكره عليه يحيى بن معين وقال هو ساقط كذاب لو كان لي فرس ورمح كنت أغزوه وقال إلامام أحمد : متروك الحديث وقال النسائي : ليس بثقة وقال البخاري : كان قد عمي فيلقن ما ليس من حديثه وقال ابن حبان : يأتي بالمعضلات عن الثقات يجب مجانبة ما روى . انتهي . وأحسن ما قيل فيه قول أبي حاتم الرازي : إنه صدوق كثير التدليس ثم قول الدارقطني : هو ثقة غير أنه لما كبر كان ربما قرئ عليه حديث فيه بعض النكارة فيجيزه انتهي . وعيب على مسلم إخراج حديثه ، وهذه حاله ، ولكنَّ مسلم روى من حديثه ما تابعه على غيره ولم ينفرد به ، ولم يكن منكرا ولا شاذا بخلاف هذا الحديث ، والله أعلم .

*********


فاللهم إنا نعوذ بك من العشق ، ونعوذ بك من مذلة العشق ، ونسألك ياالله يارحمن إلا تجعل حبنا إلا فيك ، وطاعتنا إلا لك ، ونسألك ياالله يارحمن إلا تملأ قلوبنا إلا بكتابك ، ونسألك ياالله يارحمن أن تجعلنا من أهل السنة والجماعة ، أهل الهدى والطاعة ، فاللهم شفع فينا حبيبك المصطفي صلى الله عليه وسلم ، وأوردنا حوضه ، واسقنا من يده الشريفة شربة لاظمأ بعدها ، واحشرنا معه في الفردوس إلاعلى ، ونسألك ياالله يارحمن أن تمتعنا بلذة النظر إلى وجهك الكريم .


اللهم آمـــــــــين

تم ولله الحمد والمنة

وأسأله سبحانه وبحمده أن يحفظنا من الذلل وسوء إلاخلاق ، وأن يجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين

اللهم آمــــــــــين


 
          تابع أيضا : مواضيع ذات صلة  

  محيط البوك التعليقات : 0 تعليق

  محيط البوك إضافة تعليق


3 + 8 =

/300
  محيط البوك روابط ذات صلة

المادة السابق
المواد المتشابهة المادة التالي
  صورة البلوك ملتقى الشفاء الاسلامي
  صورة البلوك اعلانك يحقق أهدافك
  صورة البلوك مكتبة الصوتيات الاسلامية
  صورة البلوك السيرة النبوية وحياة الصحابة

  صورة البلوك google_ashefaa

  صورة البلوك صور الاعشاب

  صورة البلوك الاطباق

  صورة البلوك جديد دليل المواقع